د. د. رياض عصمت
اشتهر فن الميوزيكال في السينما الأمريكية في الأربعينيات بأفلام كلاسيكية تقليدية مثل "أوكلاهوما" و"كاروسيل" و"جنوب المسيسيبي"، لكن الأفلام آنذاك كانت مستلهمة من المسرح في برودواي، إلى أن ظهرت أفلام فريد آستير، جنجر روجرز، سيد تشاريس، بينغ كروسبي، جودي غارلاند، والطفلة شيرلي تمبل، ثم أكمل فن الميوزيكال تألقه في الخمسينيات عبر أفلام جين كيلي، فرانك سيناترا، ديبي رينولدز، لسلي كارون، هوارد كيلوصولاً إلى الستينيات وما بعدها عبر أفلام جولي أندروز، ديك فان دايك، ليزا مينيللي، برباره ستريساند، وحتى أودري هيبورن. لا بد أن نذكر من نقاط العلام في مسيرة فن الميوزيكال أفلاماً شهيرة مثل: "ساحر أوز" (1939)، "الغناء تحت المطر" (1952) "سبع عروسات لسبعة عرسان" (1954)، "وجه مضحك" (1957)، جيجي" (1958)، "قصة الحي الغربي" (1961)، "سيدتي الجميلة" (1964)، "ماري بوبنز" (1064)، "ادهن عربتك" (1969)، "شحم" (1978)، "هير" (1979)، "إيفيتا" (1096)، "عبر العالم" (2007)، "تسعة" (2009)، "البؤساء" (2012)، "في الغابات" (2014). ونذكر بين أهم مخرجي الميوزيكال سينمائياً: جوشوا لوغان، فنسنت مينيللي، ستانلي دونان، روبرت وايز، جيروم روبنز، روبرت ستيفنسون، جورج كيوكور، جولي تيمور وروب مارشال. يبدأ فيلم "أرض الأحلام" على أوتوستراد توقفت عليه السيارات، وإذا بأغنية ورقصة جماعية من ركابها تملأ جو لوس أنجلوس بالحيوية. المذهل في هذا المشهد هو أن مدير التصوير لينوس ساندغرن، (بتوجيه واتفاق مع المخرج دون شك،) قام بتصوير المشهد كله بإعجاز فني في لقطة واحدة دون قطع، بحيث تحركت الكاميرا في مختلف الاتجاهات لتلتقط مع كل حركة مؤدياً أو مؤدية أو مجموعة من المؤدين يكملون لوحة معقدة وغنية بالتفاصيل لأغنية ورقصة جماعيتين. يكرر المخرج والمصور ذلك التحدي في بعض المشاهد الأخرى، متخذين من ذلك الأسلوب مفتاحاً لولوج المشاهد الغنائية/الراقصة دون مونتاج، بل برسم دقيق لحركة المؤدين (ميزانسين) مع حركة الكاميرا. تبدأ الحكاية من احتكاك سلبي عابر بين ميا وسيباستيان على الأوتوستراد المزدحم وهما في سيارتيهما. هكذا، تبدأ القصة العاطفية بين شخصين غير منسجمين للوهلة الأولى. نتعرف إلى الصبية ميا، التي تعمل نادلة في مقهى، وتعيش مع رفيقاتها حياة متواضعة، ساعية عبثاً إلى العثور على فرصتها كممثلة. كما نتعرف إلى سيباستيان، عازف البيانو، الذي تضطره ظروفه للترفيه عن زبائن مطعم راقٍ بعزف ألحان عيد الميلاد. تفشل الممثلة الشابة بالرغم من موهبتها الواضحة في تجارب الأداء التي تخوضها. أما سيباستيان، فيطرده صاحب المطعم لخروجه عن تعليماته وعزفه مقطوعته الخاصة المفضلة. بالصدفة، تدخل ميا المكان، ويسحرها عزف سيباستيان. بالصدفة، يلتقي الاثنان ثانية وتنشأ كيمياء بينهما، فيؤمن هو بموهبتها الأصيلة في التأليف والتمثيل، وتؤمن هي بموهبته في التلحين والعزف. هكذا، يصبح كل منهما عزاءً للآخر عن إحباطه وفشله في الحياة، ومحرضاً له كي لا يستسلم لليأس، بل يكافح لتحقيق حلمه الفني المنشود. يجسد الفيلم ذلك في رقصة رائعة يحلق فيها سيباستيان وميا في فضاءٍ تزينه النجوم. تتجرأ ميا على تأليف وأداء مونودراما على مسرح تستأجره من مالها الخاص، وتبذل أقصى جهدها في التمرين، وتؤدي الدور بصدقٍ وإتقان، لكن الجمهور لا يقبل على العرض، بينما يتخلف حتى سيباستيان نفسه عن الحضور بسبب ارتباط ببروفة لم يحسب حسابها. ما تلبث المشكلة أن تتفاقم بينهما بسبب بدء نجاح سيباستيان بتحقيق حلمه مع فرقة جاز صاعدة، إذ يفرق الواقع العملي بينه وبين حبيبته، لأن برنامج فرقة الجاز يقتضي منه القيام بجولة واسعة النطاق داخل أمريكا وخارجها، فلا يبقى أمام انفصاله عن حبيبته بداً. لكن سيباستيان يهرع إلى حيث تعيش ميا بعيداً عنه، ليبلغها أنه تلقى هاتفاً يدعوها لاختبار من أجل بطولة فيلم، ويصر عليها أن يأخذها بنفسه للاختبار. تنجح ميا هذه المرة بالفوز بالدور، وسرعان ما تصبح نجمة سينمائية. أما سيباستيان فيسافر في جولة مع الفرقة إلى أوربا. تمر خمس سنوات، فإذا بنا نرى ميا تعيش في منزل فاره مع زوج ثري ووسيم، وقد أصبحت أماً لطفلة صغيرة. ذات مساء، بينما الزوجان يغادران مطعماً فاخراً، يلفت سمع ميا عزف في نادٍ موسيقي مجاور للمطعم. تدخل وزوجها ويجلسان مصغيين، فإذا بالعازف الرئيسي للفرقة ليس سوى حبيبها السابق سيباستيان. هنا، في واحد من أروع مشاهد الفيلم وأكثرها عاطفية، يأخذنا المخرج عبر خيال ميا إلى مشاهد يتراءى لها فيها أنها اقترنت بسيباستيان وعاشت معه بسعادة وهناء، وأنجبت منه طفلتها الصغيرة، وحققا نجاحهما مع بعضهما. سرعان ما يعود بنا الفيلم إلى أرض الواقع، وينهض الزوجان لينسحبا إلى منزلهما. لكن، عند باب النادي، تلتفت ميا لتلقي نظرة وداع إلى حبها الآفل، وتلتقي عينا سيباستيان بها في اللحظة نفسها، فيبادلها نظرة تسامح ومحبة وحنان. استطاع داميان تشازيل ككاتب سيناريو وكمخرج في فيلمه الثاني بعد "لسعة السوط" (2014) أن يحقق في فيلم "أرض الأحلام" (2016) فيلماً خاصاً وجديد الطابع ضمن طراز سينما الميوزيكال. لعل الوصف الأنسب لهذا الفيلم هو "البساطة الآسرة"، فهو تعبير في غاية البساطة عن قصة حب حافلة بالعاطفة تجري أحداثها في لوس أنجلوس في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، أي في ذروة ازدهار الميوزيكال. لكن تشازيل يقدم الميوزيكال في فيلمه "أرض الأحلام" ليس وفق ذوق ذلك الزمان، بل وفق ذوق جيلنا الراهن. استعان على تحقيق ذلك بالمصور السويدي القدير لينوس ساندغرن، وبالمونتير توم غروس والملحن جوستين هورويتز، وكلا الأخيرين رافقاه في صنع فيلمه "لسعة السوط"، ومعهما استعان بالممثل ج. ك. سيمونز، الذي فاز عن دوره في الفيلم السابق بأوسكار أفضل ممثل مساعد. أما البطولة، فأسندها المخرج إلى ممثلين محوريين نعامل معهما لأول مرة هما الكندي ريان غوسلينغ، والأمريكية إيما ستون. يتميز الاثنان بميزة كبح جماح عواطفهما في الأداء ما أمكن، ثم تدريجياً ما يلبث أن يتألق كل واحدٍ منهما بصدق ورهافة تعبيره. ريان غوسلينغ ممثل ميزته التنوع الشديد في الأدوار، فهو ممثل قادر على تمثيل أفلام الحركة، وعلى أداء الأدوار الاجتماعية، وعلى الأداء الكوميدي. في "أرض الأحلام" تعلم ريان غوسلينغ عرف البيانو فعلاً بدأب واجتهاد مذهلين. لذلك، نتوقع أن الفرصة جاءته أخيراً ليحصد جائزة مستحقة. أما إيما ستون، فهي ممثلة تألقت بعينيها الواسعتين في "الخادمة" (2011)، "سبايدرمان المدهش" (2012)، و"الرجل الطائر" (2014)، كما سبق لها أن ظهرت مع رايان غوسلينغ في فيلم جميل بعنوان "حب غبي ومجنون" (2011)، وهي بدورها مرشحة محتملة لجائزة في التمثيل. بالتالي، ليس غريباً أن فيلم "أرض الأحلام" (2016) للمخرج وكاتب السيناريو داميان تشازيل استلهم من أفلام كلاسيكية خالدة مثل "توب هات" بطولة فريد آستير وجنجر روجرز، و"الغناء تحت المطر" بطولة جين كيلي وديبي رينولدز، فالفيلم يقدم مثلهما قصة حب، إنما بشكل جديد تماماً، خفيف الرقص، مقتصد الغناء، بينما تتميز معالجته الدرامية ببساطتها الآسرة في التعبير والتأثير. بالتالي، يمكننا القول إن نجاح الفيلم لا يكمن في إبهاره البصري - رغم عدم افتقاره إلى ذلك في ثلاثة مشاهد هامة توزعت في افتتاحه ووسطه وختامه - بقدر ما يكمن في واقعيته الشديدة، بل المتقشفة أحياناً زيادة عن اللزوم إلى حد محاكاة تلفزيون الواقع، أو صور "السيلفي"، أو الكاميرا الخفية.