د. رياض عصمت
شكَّل فيلم "شخصيات مخفية" (2016) مفاجأة مبهجة لصانعيه، فضلاً عن جمهوره العريض. اكتسح الفيلم شباك التذاكر ليحقق أرباحاً طائلة، كما نال في الوقت نفسه ثناء النقاد، رغم أنه فيلم بعيد عن البهرجة البصرية والخدع الكومبيوترية والإنتاج الضخم، وبطلاته الثلاث السوداوات لسن من النجمات بقدر ما هن من الممثلات المساعدات. أخرج الفيلم ثيادورك ميلفي، وأسهم في تأليف السيناريو مع أليسون شرودر عن كتاب من تأليف مارغوت لي شترلي. اللافت للنظر أن قصة الفيلم حقيقية وموثقة، بل إن الشخصية الأساس فيه كاثرين جونسون ما زالت على قيد الحياة، وعمرها يناهز 98 عاماً، بحيث اجتمعت بها الممثلة التي أدت دورها في الفيلم (تراجي ب. هينسون) عند تكليفها بالدور، فأبدت استغرابها لماذا ينتج فيلماً عن حياتها وحياة صديقتيها في العمل في "وكالة الفضاء الأمريكية - ناسا." كما شاهدت كاثرين الحقيقية العجوز الفيلم عقب إنتاجه، وأعجبت به أيما إعجاب. جدير بالذكر، إن كاثرين جونسون نالت الثانوية وعمرها 14 عاماً، وتخرجت من الجامعة وعمرها 18 عاماً، مما يدل على تمتعها بذكاء خارق في مجال الحسابات والأرقام، وهو ما جعل قصتها وقصة زميلتيها الطموحتين قصة تروى وتخلَّد.
ربما كان سر الإعجاب الكاسح بفيلم "شخصيات مخفية" هو بساطته المتناهية. حاول المخرج جاهداً مع طاقمه الفني التقاط تفاصيل بيئة عام 1961، إبان عهد الرئيس الأمريكي الراحل جون كينيدي، أي في ذروة حقبة "الحرب الباردة" خلال السباق المحموم على ارتياد الفضاء مع الاتحاد السوفييتي آنذاك، الذي سبق الأمريكان بإطلاقه رائد الفضاء يوري غاغارين كأول رائد فضاء في العالم، مما حفز الولايات المتحدة إلى اللهاث في السبق الفضائي وإطلاق رائد الفضاء جون غلين. لكن جوهر قصة الفيلم ليس هذا الصراع السياسي على التفوق والصدارة، بل هذه هي خلفية الفيلم ذي النزعة الاجتماعية/الإنسانية. تصور قصة الفيلم ثلاث سيدات سوداوات من العاملات في الظل في وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) خلال زمن هيمنت فيه التفرقة العنصرية وحرم السود من أبسط حقوقهم الإنسانية، بحيث خصصت لهن أقسام معينة من الباصات، وتواليتات منفصلة تماماً عن تواليتات البيض، بل حتى جرى منع تناول السود للقهوة من نفس الوعاء الذي يستخدمه البيض. قصة الفيلم، إذن، هي قصة كفاح ثلاث نساء سوداوات مهمشات يتمتعن بالكفاءة والذكاء والإخلاص في العمل ليثبتن للملأ مواهبهن، ويقمن بأدوار مهمة في إطلاق القمر الصناعي وإعادة رائد الفضاء الأمريكي الأول بأمان إلى الأرض. أولاهن كاثرين (تراجي ب. هينسون) أرملة تربي مع والدتها ثلاث أطفال، وهي ضليعة بتفوق في الرياضيات والحسابات والأرقام، بحيث تشق طريقها من وظيفة هامشية مع عشرات الرجال البيض إلى الصف الأول، بحيث يرفض رائد الفضاء جون غلين أن يباشر مهمته دون طمأنتها له شخصياً بصحة حسابات اختراق قمرته للغلاف الجوي دون أن تحترق، ونزولها بأمان في البحر. تتعرض كاثرين في البداية إلى اضطهاد عنصري الطابع من زملائها الذكور البيض، لكن رئيس الجميع الصارم هاريسون (كيفن كوستنر) يكتشف موهبة الموظفة السوداء الجديدة، ويمنحها ثقته تدريجياً، ثم يأخذ موقفاً نبيلاً ليحفظ لها كرامتها وحقوقها. وما تلبث كاثرين أن تجد أيضاً شريك عمر جديد في كولونيل أسود أحبها (ماهرشالا علي) لما تتمتع به من عنفوان وصبر وإرادة وطموح، وتقدم لطلب يدها. المرأة الثانية هي دوروثي (أوكتافيا سبنسر، حائزة أوسكار أفضل ممثلة مساعدة في "الخادمة"،) وهي امرأة تعمل مشرفة على ثلاثين عاملة سوداء، لكن حقوقهن جميعاً مهضومة. تكافح دوروثي حتى تتمكن من الاقتراب من أول جهاز كومبيوتر "ماكنتوش"، وتعلم نفسها بنفسها العمل عليه خلسة عن الأعين، وتتمكن من إقناع الإدارة بنقل الثلاثين امرأة اللواتي يعملن معها إلى القسم المحدث والحديث. أما الثالثة فهي ماري (جانيل موناي) التي صممت، رغم كونها متزوجة، على متابعة دراستها الهندسية في معهد لا يقبل في عداد طلابه إلا البيض، لكنها تتمكن بإصرارها من إقناع قاض شجاع ونزيه، فيجيز لعا قانونياً أن تكون أول سوداء تلتحق بذلك المعهد المتخصص والمتقدم. بالمقابل، تتحول بعض شخصيات البيض من السلب إلى الإيجاب، إما برغبة أو بالإكراه، وفي مقدمتها فيفيان (كريستن دانست) المديرة الشقراء التي تتعامل مع السوداوات بشيء من التعالي والصلف، لكنها تكتشف أن مواهبهن المهمشة قادرة على الدفع بالمهمة الخطيرة إلى النجاح، فتتقبلهن في البداية على مضض، لكنها تساعدهن بحس مسؤولية على أداء الواجب المناط بها على أحسن ما يرام. أجاد كيفن كوستنر أداء دور المدير الموضوعي العادل، الذي ينتبه إلى كل شاردة وواردة في المختبر الكبير الذي يحتمل مسؤوليته. صحيح أنه صارم، لكنه يعطي كل ذي حق حقه، ويتعامل بنزاهة مع موظفته السوداء الجديدة، مفسحاً لها المجال لإثبات كفاءتها واقتحامها اجتماعات أعلى المستويات القيادية في وكالة الفضاء الأمريكية، بحيث تسهم إسهاماً بارزاً في نجاح مهمة أول رائد فضاء أمريكي، وإعادته سالماً إلى الأرض.
صدق من قال: "في الفن، الأقل هو الأكثر." ابتدأت البراعة من تصميم الديكور (ميسي باركر)، فالألوان الغالبة على مكاتب "وكالة الفضاء الأمريكية – ناسا" هي الأبيض والرمادي والفضي، على نقيض الألوان الحارة المهيمنة على داخل بيوت النساء السوداوات، وحتى على داخل مكتب المدير. أسند المخرج إدارة التصوير إلى ماندي وولكر، وبالمونتاج إلى بيتر تيشنر. كل هؤلاء وسواهم من التقنيين الكثر أفلحوا في نقل بيئة الستينيات من القرن العشرين بكل إتقان. كانت لغة الفيلم الجمالية لغة البساطة المتناهية، بما في ذلك أزياء الشخصيات، والسيارات والباصات والأبنية، وصولاً إلى لمحات ظهور الرئيس جون كينيدي وزوجته. ولعل واحداً من أروع مشاهد الفيلم هو حين يعلم المدير (كوستنر) أخيراً سبب الغياب الغامض المتكرر لموظفته السوداء البارعة، وهو اضطرارها لقطع مسافة كبيرة على قدميها والعودة تحت المطر الغزير لمجرد أنه لا توجد توليتات مخصصة للسود في البناء الذي تعمل فيه وما يحيط به من أبنية، فيذهب المدير على مرأى من جميع موظفيه البيض والسود ليخلع بأداة معدنية اللافتة التي تخصص تواليتات للسود وأخرى للبيض، معلناً أن الكل في العمل سواء.
تجلت مهارة المخرج ثيادورك ملفي في حسن إخفائه للمسات الإخراج ما أمكن، كقابل إظهاره نص السيناريو وأداء الممثلات والممثلين بمصداقية عالية، وكأن المشاهد يرقب واقعاً حقيقياً معاشاً يجسد حقبة الستينيات من القرن العشرين بإقناع بالغ. من حيث المضمون، رد فيلم "شخصيات مخفية" الاعتبار لنساء كسرن حاجز التفرقة العنصرية بشجاعة وإقدام، وأثبتن للملأ قدراتهن وكفاءتهن، وقمن بمهمات استحقت من الجميع التقدير والاحترام، فكن رائدات لأجيال قادمة من بنات جلدتهن بعد أن اقتحمن مجالات هيمن عليها الذكور البيض، فنجحن فيما عجزوا عن تحقيقه، وأثبتن أن العرق والجنس لا يعطيان تفوقاً أو دونية، بل المسألة مرهونة بالذكاء والإرادة والإخلاص في العمل. نال الفيلم تقييماً قدره 7.9 نقاط، وهو تقدير عالٍ جداً لفيلم من هذا الطراز.