” أندريه تاركوفسكي ” قيصر السينما وشاعرها


” أندريه تاركوفسكي ” قيصر السينما وشاعرها

عن موقع : أرابيسك . محمد طه
هنالك في مقبرة المهاجرين الروس بمدينة “سان جنيف دوبوا” الفرنسية ، يرقد من رفض الانصياع لفاشية ستالين فعاش ومات مهاجراً، هنالك إذا ما استلقيت إلى جوار القبر واسترقت السمع جيداً ، أتتك أصواتٌ تألفها لعظماء يناقشونه بإمكانية تلخيص الحياة والموت معاً بفيلم سينمائي لا يتعدى الساعتين من الزمن ، هنالك سليلٌ آخر من سلالة العظماء الروس عاصر وتربّى على قصائد بوشكين وقصص تشيخوف وروايات تولستوي وإبداعات ستانسلافسكي وأفكار لينين واستطاع أن يخرج منها مزيجاً فكرياً قلّ مثيله ، واضعاً بين أيدي عشاق السينما خلطةً سينمائيةً فريدة لايتقنها إلا العباقرة ، هنالك حين تقرأ شاهدة القبر تعرف أنهم مجحفون في حقّه لأن من “نحت في الزمن ” ورسم السينما بالشعر وارتقى بالفيلم السينمائي إلى مصاف العمل الأدبي بل أبعد من ذلك لا يمكن احتوائه بمجرد نحت اسمه مجرداً على رخامة .
ربما لن نلام من قبل متابعي السينما وعشاقها عندما نطلق لقب ” قيصر السينما العالمية ” على مبدعٍ يحمل فكراً كذلك الذي عند ” أندريه تاركوفسكي ” فمن يمعن جيداً بمسيرته المهنية وإنتاجاته السينمائية يعي تماماً مدى الإضافة التي قدمها “أندريه ” للسينما العالمية والبصمة التي تفرّد بها دون غيره من السينمائيين منذ انطلاقة الفن السابع وحتى أيامنا هذه .
فليس غريباً أنّ ذلك الطفل الذي كان ثمرة لزواج شاعرٍ يُدعى ” آرسيني ” بالممثلة “إيفانوفنا ” واتجه لدراسة الرسم والموسيقى فيما بعد وعرّج على دراسة اللغة العربية في شبابه وتعلّق بها وبنتاجاتها الأدبية التي اطلع عليها ، استطاع أن يضخ كل ما اكتسبه من معرفة وخبرات نتيجة البيئة التي عاشها في أفلامه السينمائية والتي جعل منها جزءاً من تأملاته الروحية وأصرّ على عرض أعمق أزماته الشخصية واضعاً إياها أمام الجمهور يبحث فيها ويشرحها كما يحلو له ، متعمّداً في كثير من الأحيان إجبار المتلقي على محاولة تأمل جوهر الوجود الإنساني وغاية الإنسان في هذه الحياة ، وميقظاً في الوقت ذاته ذلك الصوت الداخلي الدائم التردد والخوف ، كل ذلك بعيداً عن الرمزية التي حاول البعض تأطيره بها وكان جوابه رافضاً لذلك في إحدى اللقاءات الصحفية : ” بإمكاننا التعبير عن مشاعرنا فيما يتعلق بالعالم من حولنا إمَّا بالطرق الشاعرية أو بالمعاني الوصفية ، بالنسبة لي أُفضَّل التعبير عن نفسي بشكل مجازي ، دعني أؤكد بشكل مجازي وليس رمزي ” .
في العدد هي سبعةٌ من التحف السينمائية الخالدة إن لم نبالغ في التعبير، وفي الكم هي مخزون فكري مكتمل يصعب تلخيصه لمن لم يمارس عادة مشاهدة أفلامه واكتشاف عناصر “تاركوفسكي ” الخاصة به دون غيره كما يُحدّثنا كل من درس الإخراج السينمائي في معهد السينما بموسكو من أبناء الشرق ، تبدأ بـ ” طفولة إيفان ” الذي كان ظهوره الإخراجي الأول مع شركة موسفيلم عام 1962 وقد نال هذا الفيلم جائزة “الأسد الذهبي” في مهرجان “فينيسيا” وحقق تقديراً وتميزاً على مستوى العالم بسبب الجرأة في طرح المعاناة والآلام الإنسانية ، وقد أثار نجاحه الكثير من الحرج في موسكو للحكومة والتي عملت على بتر نجاحه وتحجيمه .
وهذا ما مارسته أيضاً على فيلمه الثاني “أندريه روبليف” عام 1966 الذي كان عملاً شاعرياً يعرض فترات متباعدة من حياة رسام الأيقونات الروسي “أندريه روبليف” الذي عاش في القرن الخامس عشر ، وقد قُسّم الفيلم لعدة فصول مجسداً فيه دراما مجازية وصراع روحاني عميق يعكس من خلال التورية محنة الكثيرين من الفنانين الروس آنذاك ، لكن وبالرغم من أنه قد أُنجِز عام 1966، إلاَّ إن المشاكل مع الرقابة السوفيتية عطلت السماح بعرضه دولياً حتى عام 1973 ، وحاز على جائزة “النقاد” في مهرجان “كان” عام 1969 بعد أن تم تهريبه لفرنسا عبرأحد المنتجين الفرنسيين .
فيلم “سولاريس” كان الفيلم الثالث عام 1972، وقد بُني الفيلم على رواية خيال علمي كتبها “ستانيسواف ليم”، وتدور معظم أحداثه في الفضاء، لكنه بالطبع فضاء تاركوفسكي الصبغة ويختلف كلياً عن فضاء الأفلام المعاصرة من حيث الأفكارالمطروحة والرؤية الفنية ، وبعدها بثلاثة أعوام 1975 أخرج فيلم “المرآة” أول أفلامه الملونة والذي لقي شعبية طاغية بين المثقفين الروس ،حيث يتناول الفيلم قصة متعددة الحكايا تتحرك ضمن إطارت زمنية بانسياب في سلاسة للخلف والأمام، عاكسة أيضاً أحلام تاركوفسكي وتجربة أزمته الروحية كفنان أثناء حكم ستالين ، في حبكة ذات تركيبة مبتكرة جذريًا ، وقد اعتبر الكثيرون أن موضوع الفيلم جاء مُكملاً لما طرحه المخرج من قبل في فيلمه الأول ” طفولة إيفان ” .

أما آخر أفلامه في روسيا فكان فيلم “ستالكر” عام 1979، عن قصه مأخوذة من رواية “نزهة على جانب الطريق” للأخوين “ستروجاتسكي” يتناول فيه موضوع الأزمة الروحية والصدع بين علوم الطبيعة والإيمان بالدين، ومستقبل الإنسانية من منظور التهديد الذري ، مفاجئاً المتابعين بطريقة التصوير وبشكل الصورة البصرية المائلة إلى اللون البني الداكن في معظم لقطات الفيلم ، وقد عُدّ ذلك جرأة كبيرة فاجأت العين بما لم تعهده من قبل وقتئذٍ .
بعيداً عن روسيا راوده الحنين الدائم لموطن الشيوعيين وساحتهم الحمراء وتُرجم ذلك “الحنين” إلى عمل سينمائي عام 1982في إيطاليا بمشاركة الشاعر والسيناريست الإيطالي الشهير” تونيو جويرا ” ، صوّر فيه آندريه ماحدث معه تماماً من محنة الفنان في الخارج، وقد أصابه الحنين إلى الوطن، مع العجز عن العيش سواء في هذا الوطن أو بعيدًا عنه.
وفي عام الوفاة 1986، أنهى تاركوفسكي فيلمه الأخير “القربان”، وقد قام بتصويره في السويد مستعينًا بالعديد من معاوني المخرج السويدي الكبير “إنجمار برجمان”، ويدور الفيلم حول مفكر يُقدم على بذل تضحية عظيمة تقوم بإنقاذ العالم في تصوّره ، والقربان الذي يقدمه في سبيل هذا هو إحراق منزله، وبالطبع يكون جزاءه البشري مصحة الأمراض العقلية ، ليحصد الفيلم في نفس السنة والذي يعد من روائع السينما العالمية أربع جوائز في مهرجان “كان” وهو مالم يفعله فيلمٌ آخر ، منها جائزة “لجنة التحكيم لأفضل فيلم وجائزة أفضل إخراج ” .
فهل بإمكاننا بعدَ أن نعرف أن آخر لقطة في فيلمه الأخير(القربان) لشجرة بيضاء على وشك أن تثمر ، وآخر لقطة في فيلمه الأول ( طفولة إيفان ) لشجرة سوداء ميتة وبينهما قرابة أربعة وعشرين عامًا ، أن نتساءل كيف لتلك الروايات السينمائية الخالدة أن تتخذ من رفوف المكتبات مكاناً لها ومكانها الطبيعي في العقول ؟ وكيف لأعمال سينمائية تحمل نكهة مختلفة وتُعد على أصابع اليد الواحدة أن لايتم التذكير بها بين الفينة والأُخرى ؟ وكيف يكون الأمر بين عشّاق السينما حين يتوجونه مؤسساً للسينما الروحية وعرّابها الذي لم يصل أحد رغم عديد المحاولات إلّا إلى غيضٍ بسيط من فيضه الواسع ؟







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية