هيتشكوك المغامر في ريبيكا


هيتشكوك المغامر في ريبيكا

ليس من سينمائي لا يعرف المخرج البريطاني الكبير ألفريد بأفلامه السينمائية المتعددة التي دخل بها سجل الخالدين . في تاريخ هذا المخرج الكبير تتويج أوسكاري عن أحسن تصوير وفي هذا الفيلم تحديدا .
عندما أنتج الفيلم عام 1941 كان حدثا سينمائيا هاما . عن مخرج بريطاني سبقته الشهرة لهوليوود و بدأ العمل بها .
كثيرة هي المواد التي كتبت عن هذا الفيلم الذي أوجد فيه هيتشكوك نمطا إبداعيا لم يسبقه إليه أحد . وهو غياب شخصية أساسية  بالكامل عن الحضور المرئي والاكتفاء بالحديث عنها . وهي ريبيكا ، التي تبدأ أحداث الفيلم ، ونعلم أنها الزوجة السابقة لرجل ماتت في البحر .

Rebecca " .. هو أول أفلام المخرج الأسطوري الفريد هيتشكوك في مسيرته الأمريكية .

وقبله كان هيتشكوك قد صنع اسمه المرموق بعدة أفلام مهمة ، ممنهجاً فيها لأساليب و تكنيكات غير مسبوقة في مجال الإثارة النفسية والبوليسية مثل :
The Lady vaniches و 39 steps و فيلمه الصامت The Lodger - الذي يعده النقاد أول فيلم تشويق وجريمة في تاريخ السينما - ما أتاح له أن يضع شروطه الخاصة قبل التوقيع مع مؤسسة المنتج ( دافيد سيلزانيك ) لتصوير نسخة سينمائية من الرواية الشهيرة (ريبيكا) للكاتبة البريطانية ذات النزعة الفرويدية ( دافني دو مورييه ) .

وأي بداية قد تكون أفضل بالنسبة لهيتشكوك لترسيخ خطواته الأولى مع مخرجي هوليود الكبار في ذلك الوقت أكثر من رواية نفسية عميقة كهذه الرواية .. تتحرى المخاوف الانسانية الطبيعية ، وتكشف زيف المظاهر البرجوازية ، وتنظر لمفهوم الحب بشكل واقعي ، و تتمازج فيها الرومانسية بالغموض وبالإثارة البوليسية المشوقة التي يبدع هيتشكوك في تقديمها دون سواه ؟.

إن مصطلح الإثارة الذي يطلق كسمة أساسية وغالبة على أفلام هيتشكوك قائم بالدرجة الأولى ، على تخزين وترسيب مشاعر القلق في ذاكرة المشاهد قبل تفجير مفاجأته .. فالقلق - بما يوفره من مساحة توتر نفسي تسمح بتقديم الإثارة - هو المعنى المرادف لمصطلح الإثارة في سينما هيتشكوك.. و ضمن هذا المنطق يعمد هيتشكوك في أفلامه لتحليل شخصيات تعاني وتواجه مخاوف و مصاعب نفسية عصابية معينة ، كجزء مهم من عملية البناء المتقن للإثارة والتشويق في أفلامه . تحليل يقوم على وضع هذه الشخصيات في مواقف حصر نفسي ، ومن ثم الاكتفاء بمراقبتها وهي تسعى للتصرف في محيطه . وهو الأسلوب الذي اقتبسته كثير من الأفلام النفسية فيما صار يعرف بالأسلوب الهيتشكوكي Hitchcokian في المعالجة ولم ينجح فيه إلا قلة قليلة من المخرجين . و Rebecca يما يحويه من شخصيات قلقة تعيش هواجس و مخاوف مختلفة ، كان يمثل فرصة مناسبة لألفريد هيتشكوك لتقديم هذه الشخصيات التي يحبذ تناولها ، ولم يكن محاولة من قِبله لتغيير اسلوبه الذي بدأ وعُرفَ به .. حتى انه قد تم تصنيف الفيلم إلى جوار الرائعة النفسية The Silence of the Lambs كفيلمي الإثارة الوحيدين اللذين فازا بأوسكار أفضل فيلم .

Rebecca يتحدث عن علاقة زواج تتعرض للامتحان في غير موضع .. طرفيها : ( ماكسيم ) وهو رجل انجليزي ثري فقد زوجته السابقة ( ريبيكا ) في حادث غرق ، لتنتابه على اثر ذلك الكثير من الذكريات المزعجة والتي يسعى لطردها ولكن دون جدوى .. وزوجته السيدة (دي وينتر) التي ظل اسمها مجهولاً في الفيلم كما في الرواية ، حتى قبل زواجها من (ماكسيم دي وينتر) لتكتسب لقب السيدة دي وينتر وهو الاسم الذي نعرفه بها. أما ريبيكا ، التي لانشاهدها في الفيلم ، و التي يتردد اسمها أكثر من أي اسم آخر .. فهو مجرد شبح يأسر لحظاتهما البريئة ، وينساب هاجساً مخيفاً في حياة كل واحد منهما ، ويكاد يدفعهما لدرجة الجنون ، وهو الذي تدور حوله أحداث الفيلم. ريبيكا ومالذي تشكله هذه الشخصية في حياة زوجها ماكسيم دي وينتر ، ومالذي صارت تشكله ريبيكا في حياة السيدة دي وينتر بعد زواجها من ماكسيم وانتقالها معه إلى ماندرلي .

يبدأ الفيلم بمشهد لحلم الراوية - السيدة دي ونتر - .. روحٌ تمضي وتسبح في الظلام ، وككل أرواح الحالمين فلاشيء يقف أمامها . حتى تقف أمام ذلك القصر الأشبه بقلعة شيطانية يلفها الظلام ، إلا من ضوء القمر الخافت والمتقطع من السحاب . " إنني أعرف أننا لن نعود لماندرلي ثانية - تقول الراوية - ولكن في أحلامي أنا أفعل ذلك أحياناً.. كل هذا يبدأ من الأيام الغريبة التي قضيتها في مونتي كارلو " .. الأحداث الغريبة تبدأ بتعرف هذه الراوية على ماكسيم دي ونتر و تقع في حبه لتتزوج منه وتنتقل معه إلى منزله في ماندرلي ، حيث كان يسكن مع زوجته ريبيكا.. و بالإنتقال إلى ماندرلي ، نتعرف على مدبرة المنزل ( دانفرز ) ذات الوجه المحنط الشاحب الذي لن تنساه . أول مايخطر ببالك حين تشاهدها هو أنها نذير شؤم . ذلك الوقار ، والهدوء الذي يكسوانها ، إنما يخفيان ورائهما فوضى رهيبة تشتعل بداخلها .. متشحة بالسواد كما هو ذلك القصر العظيم بعد رحيل سيدته السابقة ريبيكا التي وكما كان يشاع بأن ماكسيم كان متيماً بها لدرجة الجنون . في ماندرلي تسعى السيدة دي ونتر للتأقلم مع هذا الوضع الجديد كسيدة للمنزل ، إلا أنها تواجه صعوبات جمة ، خصوصاً أنها كانت تشعر بأنها في موضع مقارنة دائمة مع ريبيكا و هذا ماكنت توحي به المدبرة دانفرز طيلة الوقت . شخصية المدبرة دانفرز يرسمها هيتشكوك بشكل يوحي لك بأن شبح ريبيكا إنما هو متجسد فيها .. بل ويتنفس الغيرة من خلالها .

سيناريو الفيلم الذي صاغه روبروت شيروود و جوان هاريسون كان متقناً على أكثر من صعيد .. إن كان في تناوله لهذه الشخصيات المعقدة وطريقة تقديمه البارعة لها ولمحيطها الذي تتفاعل معه ، أو في طريقة سرده التي تأخذ شكل البناء السيمفوني المتناغم من خلال تمهيده الذكي للحظات الذروة وللتقلبات التي تحصل للشخصيات قبل وبعد الإنتقال إلى ماندرلي العظيم ، أو من خلال محافظته على تماسكه وسلاسته ضمن المزيج المتنوع الذي يصنع تفرده ، ويجعلنا متفاعلين بشكل مستمر ومتواصل مع محاولته لاستبصار الصورة الكاملة خلال التطورات التي تمر بها علاقة ماكسيم بدي وينتر ، ودي وينتر بماندرلي .
.

إلا أن النقطةالأكثر إثارة للإهتنمام هنا هو التعامل المثالي مع الشخصية الأقرب للوهم .. ( ريبيكا ) .. حيث يعمل الفيلم بكل إتقان على توليف صورة هذه الشخصية التي صارت تستحوذ على تفكير السيدة دي ونتر كما ماكسيم ، ولإبراز ذلك الفراغ الذي خلفته والذي يسعى الاثنان لملأه ، هناك الكثير من التشويق والرعب الذي يتأتي من هذا الانتظام في وصف هذا الشبح ، كونها تمثل في هذه الحالة رمزاً للهاجس الإنساني بين ماتشكله لماكسيم وما تشكله للسيدة دي وينتر بل و للمدبرة دانفرز .. ريبيكا هي لغزٌ غامض تشكل الإجابة عليه معيناً لاينتهي .. يثري كل دقيقة من الفيلم .. حوارته ومشاهده .. من هي ريبكا ؟ كيف تبدو ؟ وماهي حقيقة غرقها ووفاتها ؟ .
يعطينا الفيلم وصفاً دقيقاً لريبيكا بحيث أنها تبدو كالملاك في جمالها ، ومن الصعب مقاومة أغرائها أو نسيانها .. فتاة تتمتع بجمال فائق ، مسلية ، محبوبة .. " لقد كانت تمتلك كل مايحبه الرجل في المرأة " كما يصرح بذلك ماكسيم في المشهد الذي أفضى فيه بكل شيء لزوجته دي وينتر .. إلا أنها لم تكن تقدر أي نوع من الالتزام حينما أقامت علاقة مع حقير يدعى ( فافيل ) والذي يظهر فيما بعد محاولاً الإيقاع بماكسيم ، بتهمة أنه هو الذي قتل ريبيكا مدعياً بأنه حبيب ريبيكا المفضل ، وأنها كانت تحمل بابنه .. لقد كان الحب لعبة بين يديها تهبه لمن تشاء ، حتى للمدبرة دانفرز . من هنا ينشأ ذلك التنافر بين ماكسيم وزوجته دي ونتر والذي يعزف الفيلم على وتره بذكاء . كون ماكسيم كان يكره ريبيكا لأنها كانت تحتقره ولاتقيم له وزناً ، كما أنها صارت تمثل سره الكبير الذي يؤرقه بعد وفاتها .. وبين ماتمثله ريبيكا بالنسبة لماكسيم قبل وبعد زواجه منها ، وحتى بعد وفاتها .. فإنه يرفض أن تكون السيدة دي ونتر ، ريبيكا أُخرى بأي حال من الأحوال .. وهذا ماكانت تسعى الأخيرة لتحقيقه دون أن تعلم شيئاً من كل هذا في بداية الأمر فسعت طيلة الوقت لمليء هذا الفراغ . إنه هاجس الكمال الكاذب الذي خُدع به ماكسيم في البداية ، وسعت السيدة دي ونتر للوصول إليه







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية