أنا والضجر وبنات آوى (حوارات مع عبد اللطيف عبد الحميد)


أنا والضجر وبنات آوى (حوارات مع عبد اللطيف عبد الحميد)

فجر يعقوب
منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما /152/
ما هي الليالي التي تهيمن عليها بنات آوى في فيلم عبد اللطيف عبد الحميد الروائي الطويل الأول، ربما تكون ليالي الإحباط والانكسار التي حملها أبو كمال في صدره طويلاً. أبو كمال الذي يستفزه عواء نبات أوى في الليل الموحش هو ذاته الذي سرح يوماً من الجيش، فعاد إلى أرضه الأولى تكتنزه المرارة ويغلفه الأسى. أبو كمال يوزع أولاده في الحقل الأبدي، يزوج الابنة الكبرى لمن لا تحب ولا تهوى، ويرسل كمال للدراسة في المدينة، فيعود خائباً وذليلاً ليمرغ وجهه بموروث الحقل، طلال يهرب من الدرب ليمارس عادة التلصص على (حياة) التي تضج بالأنوثة في غفلة عن زوجها الذي يبسط هيمنة ذكورية فارغة على (سجائر الجيران)، والجيران هنا هم أولئك الذين يقاسمونه (الحياة) وأسرارها، وهو غافل في الصيد الذي لا يهمنا في شيء. ففي الوقت الذي تبدأ فيه حرب حزيران 1967، وهي لحظة حاسمة وتراجيدية في تاريخ هذا الفيلم، يغير الزوج المخدوع من قوانين اللعبة، فيقدم على إحراق حقله كي لا يصل إليه الأعداء، وإن وصلوا فإنهم لن يلتفتوا كثيراً إلى زاه القليل، سيكتفون من الآن فصاعداً، بنزع أحلامه من رأسه التي تضخمت، وهي أحلام شعبية تتعدى صيد العصافير، وتدخين السجائر والاستحمام في العراء، فيما حياة ترهن الجسد البضّ الثري عند السعادة كي تزداد أنوثة واخضراراً على مرأى من يشهد على اندحار سلطته تدريجياً، فليس للحفرة التي انكفاء هيمنته، وإن كانت تبدو غير ذلك، هي لحظة العقاب والتشفي. فمنذ هذه اللحظة القاسية والمؤلمة سوف نشهد على غياب طلال النهائي، لن يعود ثانية، ليس لأنه هزيمته سوف تقر على جينه وهو في الحفرة، عنوان إقامته في الأمكنة الأخرى التي سيذهب إليها. وكأن الحرب البعيدة ليست هي ما يؤسس لهذا التدهور، بالقدر الذي تؤكد فيه على المسافة البعيدة التي تميز الريف في ابتعاده وبعده الجغرافيين، وما بروفة الاستعداد للحرب الذي يفرضها أبو كمال على أبناء جلدته وعلى أفراد عائلته، فتضعه حارساً على الجسر القريب، إلا وسيلة إضافية لتأكيد صحة هذا التدهور الذي يفضي بدوره إلى تدهور من نوع أخر، فها هي دلال تخطئ بحق أبيها وأمها، وبحق عائلتها فتهرب مع شاب جبان متردد لا هم له سوى التغني ببقرته. تهرب لأن التدهور الذي بدأ يأكل هذه العائلة، بدأ أصلاً في اللحظة التي أيقظ فيها أبو كمال زوجته لتسكت بنات آوى بصفرة منها، تسكتها ليستفرد هو بالليالي المطمئنة. وليؤكد دائماً على سلطته كأب قمعي وحنون في آن، فيثور ويشتم الحقول التي يزرعها ويحرثها في الحلم، لأن فلسطين لا تعود إلا في الحلم، حتى وأن كان هذا الحلم في الحقل الفسيح، الهزيمة وقعت لأنها شر لابد منه، وفلسطين ليست هنا، فلسطين في البعيد. وجاءت لتغطي على نكبتها بنكبة أخرى، الفيلم لا يؤكد حصول نكسة من أي نوع، فنحن لم نكن بالذرى يوماً، لأن الليالي المستمدة من حقول القمح والشعير والبندورة هي حقول بنات آوى بامتياز.

- (ليالي ابن آوى) فيلمك الروائي الطويل الأول، هل تعتقد إنك ارتكبت أخطاء فيه... وما هي حكاية الأفلام الخام التي صورت عليها الفيلم...؟ - بأي معنى أخطاء....؟! - أخطاء في اللون... نتيجة استخدام أفلام من ماركات مختلفة. - عندما بدأت تصوير الفيلم لم يكن لدى المؤسسة العامة للسينما حينها إلا خمس علب خام... وما تبقى أحضرناه من التلفزيون والإدارة السياسية، بعض هذه العلب مر على تاريخ إنتاجها أكثر من 14 سنة، ولم أتمكن من إعادة تصوير بعض المشاهد بسبب هذه الأخطاء مع علمي الأكيد أن الممثل يجب أن يكون في حالة أفضل. - هل أنت نادم لأنك استخدمت هذه المواد الخام بهذه الطريقة؟ - لست نادماً.... - لماذا لم يحاول أبو كمال مواجهة عواء بنات آوى باستخدام وسائل أخرى غير الصفير... صحيح أنه اشترى بعض الصفارات ولكنه فشل... - هؤلاء البشر مجبولون بهذه الطريقة... وهو سيستمر الآمر والناهي في البيت... فلماذا سيتحمل عناء البحث عن وسيلة لطرد بنات آوى؟ - لماذا لم تتركه يتعلم في البداية ليتفادى وقوعه في هذا المأزق... هو لم يجرب أصلاً؟؟ - هو كان يفكر بطريقة أخرى، كانت المياه تسير من تحته وهو لا يشعر بها. هو رجل بسيط بالرغم من تسلطه، ولكن عقليته العسكرية التي تتحكم به تجعله يشعر بالمتعة والنشوة لأنه يعتقد نفسه أمناً. - رده فعله على سقوط القنيطرة تشبه ردة فعله على خيانة زوجته.. هل هذا ما تريد قوله... - بالتأكيد فمن لا يساوم على وطنيته حتى بهذه الطريقة الساذجةـ فإنه لا يساوم على شرفه. - لماذا استعدت هزيمة حزيران 1967 في فيلمك الأول... هل كانت ملحة إلى هذه الدرجة. - هزيمة حزيران منعطف هائل في حياتنا على مختلف الأصعدة، عندما بدأت الحرب وكرت معها كل تلك البيانات التي اكتشفنا معها لاحقاً أنها أكاذيب وخداع، فالأرض تحتل من حولنا، فيما نحن نحررها ونقتل الآلاف من الأعداء بالراديو. لقد كانت خيبة أمل كبيرة لم ننته منها حتى الآن، وأثارها وذيولها مازالت ترسم الكثير من ملامح حياتنا. - اليوم في وقتنا الراهن مع الانتشار الهائل لوسائل الإعلام أصبح من العسير الحديث عن الإحباطات بالطريقة التي كانت تدور في زمن أبو كمال. - لو أردنا أنت نتحدث عن خيط ينظم هذا الفيلم درامياً.... أين يمكننا أن نمسك بطرف هذا الخيط... هل يبدأ من هيمنة الأب؟ - من هي المطيعة في الواقع؟ تبدو على نقيض تام مع الأب. هل يمثل صفيرها بالنسبة للأب مغزى جنسي متوار يضمن له المتعة بالاستسلام له؟ - لا يبدو لي أن الأمر كذلك، الأم تمثل هنا قوة الروح، وهذا واضح جداً في الفيلم، وهي تمثل الأمومة النبيلة، العطف، الحب، التضحية، لا أعتقد أن هناك أي مغزى جنسي، بقدر ما هي الأمومة الفائزة فيها، وهي تقوم بتفريغ هذا البالون المحقون بداخل الأب الذي ينفخ فيه طوال النهار لتجيء هي بواسطة الدبوس وتفجر هذا الهواء المضغوط في آخر الليل. - دلال هربت مع شاب بسيط لا يجيد سوى الحديث عن البهائم لتتمرد فعلياً على سلطة أبيها... ألم يكن بالإمكان أن يكون خيارها أفضل ما دامت أرادت أن تقوم بفعل واع مؤاده التمرد؟؟؟؟ - هي لم تتمرد... وهي تصرفت من خلال الخطأ الذي ارتكبته ، وكل إنسان لديه نقطة ضعف قد يخدش من خلالها... وهي لم تنزل من القمر لتكون لديها خيارات غير هذا المتردد المخذول، حدثت زلة كبرى يمكن وصفها بالخطيئة، وهي اعترفت لأمها بما جرى، صار هناك خطورة على حياتها لحظة الاعتراف، وكان على الأم من خلال وضعها أن تعاتبها بما يعني لها ذلك من الآلام والجروح وهي المريضة أصلاً، وهي حاولت أن تبعد أبنتها لإدراكها أن فعلتها هذه قد تودي بها بالفعل، ولهذا أبعدتها قبل أن يجيء الأب، فهي لا تتمنى لها الموت بالرغم من معرفتها بحجم خطيئتهاـ ولكنها تعاملت مع حالتها بروحية متحضرة وقوية، الأب سيتصرف بطريقة مختلفة، فصياح بنات آوى كان كافياً مثلاً على إغضابه غضباً شديداً. - مشهد دفن طلال كيف حدث واشتغلت عليه؟ - طريقة العقاب... "الطامبو" هي طريقة عسكرية صرفة، وعلى المعاقب – بفتح القاف – أن يقوم بحفر الحفرة والجلوس فيها، وقد جاء بها الأب من الجيش، وهو مارسها على ابنه لأنه ضبطه متلصصاً على حياة، بالنسبة للأب هذه مسألة أخلاقية لا يمكن المزاح فيها أو التساهل معها، الطريف في الأمر أن الدركي جاء في هذه اللحظة التي يقعي فيها طلال تحت الشمس اللاهبة ليبلغ الأب بسوق ابنه إلى خدمة العلم، عملياً أصبح جاهزاً للسوق وإن بدا عليه أنه مكسور الخاطر تماماً في "الحفرة النهائية".....!! - الأم تحكي له عن هروب ابنته، وهو لا يحكي لها عن استشهاد ابنها طلال في الحرب... هذا التكتم هل هو من نوع الكبت الذي يقيمه الأب في سريرته؟ - لنسمها الحسرة المتكتمة أو العقاب الداخلي الذي يمارسه على نفسه، فهو يدرك في سريرته أنه قسا كثيراً على ابنه، وآن له أن يبكي في هذه اللحظة. فقد أرسله إلى خدمة العلم وهو منكسر داخلياً، بكاؤه تحت الشجرة، وهو من المشاهد التي أحبها في الفيلم، هو ندم على ما فعله به. - لماذا أردت للأم أن تموت كمداً وحزناً على ابنها، فيما كنا نعتقد إن الجنازة ليست لها، بل هي جنازة طلال... لماذا تعمدت إثارة اللبس في هذا المكان؟ - كان الأمر مقصوداً، فسقوط الأم في هذه اللحظة يجعلك تقوم ببعض التداعيات الضرورية. - كيف ذلك؟ - عن طريق عمل جنازة مركبة بطلها نعش الأم، فنحن لا نعرف كيف استشهد طلال، وهل هنالك جثة أصلاً، هناك الكثير ممن استشهدوا لم يتم العثور على جثث لهم، كانت بقايا متفحمة، أنا أوحيت بهذين الشيئين تقريباً في المشهد.







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية