علاء عبد العزيز السيد
منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما /145/
السينما اليوم فن تركيبي معقد، يختلف عن تلك البدايات البسيطة التي كانت تشكل الفيلم السينمائي في صورته الأولى، فالفيلم صار يعتمد بنية تركيبية مازالت تقوم على استدماج الفنون الأخرى داخل بنيتها، وإن كان قد تم تعديل وتطوير تلك الاستدماجات بما يتلاءم مع الأسلوب والشكل الفيلم على مدار الزمن، فالسينما تشكل أسلوباً خاصاً بها. التساؤل حول طبيعة السينما (الفيلم) من حيث كونها لغة لم يكن مقتصراً على ذلك الفن فقط، وإنما امتد فيما سبق إلى باقي الفنون الإنسانية من حيث التساؤل، هل تشكل هذه الفنون لغات تشبة اللغة الكلامية؟ والفنون بما فيها الفيلم دائماً "قصدية" فيما تريد إيصاله، سواء أكان يتعلق بالمشاعر أو بالأفكار، إذ أن الفنون دائماً "تدل" على شيء ما.
فقدرة الفنون تأتي من قدرتها التعبيرية، فالعمل الفني هو دائماً بصدد شيء ما ملح يرغب الفنان في إخبار الآخرين عنه. اللغة اليوم علم له قواعده وأسسه المنهجية، التي يتحرك عليها الباحثون والدراسون ولكن دائماً يبقى السؤال الملح في الأذهان، وهو كيف بدأت اللغة التي نتكلمها اليوم؟ أن نشأة اللغة هي دائماً اللغز الذي يبحث عن إجابة رغم سنوات البحث الطويلة الماضية، ولماذا انفراد الإنسان وحده دون سائر المخلوقات باستخدام اللغة سواء على مستوى النطق أو الكتابة؟ ولماذا اختلفت الألسن (اللغات) بين سائر الجماعات الإنسانية؟ ودائماً هناك المحاولة في البحث عن أصل اللغة، البحث عن كيفية بدئها، وأين يكمن منبعها الذي نغترف منه حتى الآن؟ اللغة هي أحد أشكال النظام التي وضعها الإنسان، ولكي تتواصل أي جماعة بشرية من خلال لغة ما لابد من وجود نظام داخلي لتلك اللغة، يفهمه جميع من يستخدمها، بالإضافة إلى كونه
– النظام – يتيح لهذه اللغة شكلاً من أشكال الاستقرار الذي يمكن الجماعة البشرية من التعامل بها، "وكان التطور من العلامة إلى المفهوم المجرد والرمز معناه تطور اللغة من الوفاء فحسب بوظيفتي الإعلام والأخبار إلى الوفاء أيضاً بوظيفتي التصوير والصياغة. إلا أن مفهوم التجريد الذي هو أحد نقاط الارتكاز اللغوي لدى الإنسان ما كان ليكتمل إلا بمفهوم "التعميم" والذي هو أيضاً ركيزة لغوية هامة لدى الإنسان، والتعميم هو إطلاق هذه الصفات المستلخصة– أو المعاني المجردة – على كل الجزيئات والأشياء التي تشترك في تلك الصفة، مع اتساع هذه الصفة لما يستجد من جزيئات وأشياء داخل نفس المجموعة (فمهوم التعميم هذا أتاح للإنسان من خلال اللغة أن يضع كل ما يمكن أن يشترك في الصفات داخل عائلة واحدة، مع القابلية الفضفاضة لإضافة أشياء أخرى داخل تلك التجمعات التصنيفية، وهذا ما أتاح للإنسان أن يصنف النباتات بصفاتها المشتركة ضمن ما يطلق عليه العائلة النباتية، وذلك من خلال صفات عامة تجمع كافة النباتات تحت مسمى نبات (الزهور، الخضراوات، الفاكهة.... الخ) وكذا الحيوانات والحشرات. مرت اللغة بمراحل تطور عديدة عبر التاريخ الإنساني وانتقلت من مرحلة إلى أخرى نتيجة مستجدات ومتطلبات اجتماعية طرأت عليها عبر التطور الدائم لمفهوم التواصل الإنساني بإضافة إلى التطور المعرفي بشكل عام. تمثل الكلمة المثير الحسي الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالدلالة – بالصورة – الذهنية المتولدة عنه كما يقول " دي سوسير" ويعبر عن ذلك بالدورة الكلامية ما بين شخصين، أولهما تمر برأسه تصورات ذهنية فينتقي من الكلمات (الصور السمعية) ما يمثل تلك "الدلالة الذهنية"، ثم يبدأ في نطقها فتصل إلى الشخص الثاني والذي سيتقبل ما أرسله الأول عن طريق حاسة السمع، ثم يبدأ في تحويل تلك الكلمات (الصور السمعية) إلى "صور ذهنية" أي نفس ما قام به الشخص الأول ولكن بشكل معكوس، وإذا قام الشخص الثاني بالتكلم فإن نفس الدورة السابقة ستبدأ من جديد، فالدورة الكلامية السابقة تعتمد على القدرة المتبادلة ما بين طرفي المحادثة على فك السفرة التي تدل عليها الكلمات سواء من المرسل أو من المرسل إليه، فيما يتعلق بالصورة السمعية وما تشير إليه من دلالات ذهنية، وبانعدام تلك المرجعية بينهما، يستحيل التواصل والفهم ما بين الطرفين على الرغم من وجود المثيرات الحسية إلا وهي الكلمات، والتي لن تتعدى كونها مثير حسياً لا معنى له. تمثل السينما خطاباً بصرياً، لديه القدرة على التوغل في كافة جوانب حياة الإنسان، بل ولديه القدرة على تشكيلها مستقبلياً، وذلك عبر قدراتها الفائقة في "التجسيد" الذي لم يتح لأي فن سابق بهذا القدر الكبير من "الفوتوغرافيا" لطبيعة الحياة والإنسان. لقد حاولنا عبر استخدام الدراسة النصية للفيلم أن تنكشف جوانبه الأساسية، وأن نصل إلى البنيات الأعمق لتكونه وتشكله، فالفيلم ليس مجرد مجموعة صور متلاصقة تقدم بشكل متلاحق، إنما يمثل فكراً ورؤى ووعياً يقدم من خلال صياغة بصرية حتى وأن كانت في أبسط أشكالها. قد تشبه الصورة السينمائية، اللغة الكلامية، إلا أنها في الوقت ذاته ليست مثلها، فاللغة الكلامية لها قواعدها التي تحكمها، والسينما لا يوجد بها مثل هذه القواعد التي يمكن أن تتحكم في صياغة وتكوين الصورة الفيلمية، فلا يوجد أي قاعدة نحوية سينمائية تمكننا من أن نقول أن وضع تلك اللقطة هنا وفي هذا المكان خطأ، لا يوجد أي قاعدة تحدد لنا كيف يمكن أن نبدأ المشهد الفيلمي وكيف ننتهي منه، أو كيف نختار أحجام اللقطات، أو مستوى ارتفاعها، أو تحدد لنا حركة الممثلين أو نوعية حركة الكاميرا المصاحبة لهم، لا يوجد مثل تلك القواعد الصارمة بالسينما، التي توجد في اللغة الكلاميةـ، كما لا يوجد بالسينما أي قواعد تحدد لنا أو تلزمنا بكيفية أو أين تستخدم وسائل الانتقال البصري المغاير للقطع (المزج – الاختفاء والظهور التدريجيين)، فمثل هذه الاستخدامات تخضع لرؤية منتجي النص (كاتب السيناريو ومخرج النص الفيلمي) وتصورهما عن العالم الفيلمي الذي يقومان بتشكيله، وإذا كان هناك نوع من الاتفاق (العرفي) في فهم دلالات وسائل الانتقال البصري فيما بين صانعي الأفلام، ومتلقيها، فإن هذا الفهم يرتبط بسياق الأحداث الفيلمية، فمن الممكن أحياناً أن يتم الاستغناء عن بعضها أو استخدامها خارج العرف المتفق عليه، دون أن يرفض المتلقي هذا أو أن يشعر بأن هناك خطأ ما قد حدث بالسرد الفيلمي، كما لا توجد أيضاً قواعد تلزم صانعي الأفلام بكيفية وأماكن وضع المؤثرات والموسيقى بالفيلم. يمثل الفيلم رؤيا كلية تعبر عن رؤى صانعيه، ويتساوى في ذلك الفيلم ذو الصبغة التجارية والفيلم ذو الأفكار، فبغض النظر عن قيمة الطرح الذي يقدمه الفيلم، فهو قد يكون سطحياً أو عميقاً فيما يطرحه على المستوى الفكري أو البصري، وهذا ما يتكشف عبر مشاهدته أو تحليله فنياً. واستخدام النظريات النقدية التي تنهض على أسس فكرية وفلسفية – وأن لم تنشأ أساساً من داخل المجال السينمائي – وإنما تصلح لتكون عوناً لباحثي ودراسي السينما في كيفية فهم تكون وتشكل البناء الفيلمي، لذا يجب التعامل مع الفيلم في إطار أشمل وأوسع من حيث كونه نصاً يستوعب ويتأثر في شكله الفيلمي بالمؤثرات الفكرية المتبناه من صناع النص البصري.
فهرس - مقدمة....
- الباب الأول (ماهية اللغة)...
- أولاً: نشأة اللغة....
1- نظرية الوحي الإلهي...
2- نظرية المواضعة...
3- نظرية المحاكاة..
4- نظرية العمل كمنشأ للغة...
5- نظرية الاستعداد الفطري..
. 6- نظرية التنفيس عن النفس....
- ثانياً: دور اللغة في حياة الإنسان...
- ثالثاً: التطور اللغوي... أ- التدوين والتطور اللغوي..
ب- القراءة والتدوين.... - الفصل الثاني: (خصائص اللغة الفنية)...
- تمهيد.... - أولاً: ماهية الفن والدلالة.... - ثانياً: مادة العمل الفني وادراكيتها...
- ثالثاً: الحيز ودوره في تشكيل العمل الفني... - رابعاً: البنية التنظيمية للعمل الفني....
- خامساً: اللغات الفنية ودورها في بناء المعنى.... - الفصل الثالث: (خصائص اللغة السينمائية)....
- تمهيد... - أولاً: نشأة السينما.... أ- الحركة المرئية ركيزة لفن السينما... ب- الإبهام بالواقع...
- ثانياً: السينما كوسيلة دعائية (ايديولوجيا)...
- ثالثاً: أسلوبية العرض السينمائي.... - رابعاً: دور المتلقي في العرض السينمائي....
- خامساً: الامكانيات التعبيرية للعالم الفيلمي... - الباب الثاني: - الفصل الأول (مفهوم النص)...
- تمهيد... - أولاً: تعريف النص...
- ثانياً: النص الفيلمي...
- ثالثاً: الدلالة الفيلمية... - الفصل الثاني (دور المونتاج في خلق الدلالة الفيلمية)...
- تمهيد... - أولاً: المونتاج والاحساس الزمني... أ- المونتاج ونسبية الزمن...
- ثانياً: المونتاج والدلالة الفيلمية... أ- المونتاج والواقع الفيلمي...
ب- المونتاج كآلية ذهنية... ت- المونتاج كبنية كلية.... ث- المونتاج ودلالة التفاصيل....
ج- المونتاج والسرد الفيلمي... ح- المونتاج ووجهة النظر...
خ- المونتاج والعلاقات الزمنية....
- الفصل الثالث: (التحليل النصي لفيلم المومياء للمخرج شادي عبد السلام)... - مدخل...
- أولاً: البطاقة الفيلمية.... - ثانياً: التتابع الفيلمي...
- ثالثاً: موضوع الفيلم.. أ- استهلال النص...
ب- عنوان النص....
- رابعاً: التاريخ كإطار للنص...
أ- البنية الدلالية للنص الفيلمي والإطار الدلالي العالم....
ب- البنية القصصية للفيلم...
1- الواقعة التاريخية...
2- الواقعة الفيلمية... - خامساً: أسلوبية الحوار...
أ- البنية السردية لنص فيلم المومياء...
ب- التناقض كبنية سردية بالنص الفيلمي...
ت- التمفصلات الزمنية للنص...
ث- وسائل الانتقال البصري بالنص...
. ج- الانقطاعات الزمنية للنص... - استخدام النص للصوت كوسيلة انتقال وكوحدة ربط...
1- الصوت كأداة انتقال...
2- الصوت كوظيفة استرجاعية....
3- الصوت والاستباق الزمني... 4
- الصوت كوحدة رابطة....
ه- الفضاء والبنية المكانية للنص...
1- البنيات المكانية للنص... 2- الفضاء الشخصي.... ن – رمزية اللون ودلالته... ط- رمزية الموسيقى ودلالتها....
ك- رمزية الحركة ودلالتها.... - الخاتمة.... - المراجع....