منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما(144)
في نهاية خمسينات القرن الفائت، ومع بداية عقد الستينات أصبح الحديث عن سينما المؤلف في الفن السابع الأوروبي "حجة" للتدليل على المخرجين الجدد (الذين لا ينقصهم الغرور أو الزهو بتاتاً) من أمثال: فيدريكو فيلليني، انطونيوني، فيسكونتي في ايطاليا – ألن رينيه، فرنسوا تروفو، وفي وقت متأخر، راينر فيرنر فاسبيندر في ألمانيا، الذي سيكون نموذجاً صارخاً للمؤلف السينمائي، والتلفزيون.
أنا لست ببغاء... أنا بومة:
سطوة تقانات الفيديو استراحت وأراحت علناً بموت فاسبيندر (10 تموز 1982)، فلم تعرف السينما الألمانية، ولا أي سينمات أخرى، مخرجاً سينمائياً تذوب مع الإمكانات التي يقدمها التلفزيون مثله (كان دؤوباً حد التدمير الذاتي والإقلاق لكل من يعمل معه)، والأفلام التي صنعها تجاوزت السنوات التي عاشها مقتصداً (36 سنو مقابل 44 فيلماً، وقد كان في مسيرته الفنية، الأكثر إثارة للجدل في الأوساط السينمائية من هذا النتاج الضخم، المسلسل التلفزيوني (برلين الكسندر بلاتز)، 13 حلقة مقابل 13 مارك فقط، وفيلم (كبريل دي بريست) المأخوذ عن رواية لجان جينيه بواقع الاسم نفسه، والتي يصور فيها العوالم السفلية الوقحة. "الناس لا ينتظرون في سياق الحياة ببغاء ليقول لهم كيف ينشئون أيامهم، لكن بالتأكيد سوف يفرحون أذا ما وجدوا بومة تبين لهم كيف يقاومون الأيام المملة والضجر، أنا أعتمد كثيراً على سحر الخيال في المقاومة بطرائقي الخاصة".
الجمود لم يعكس صورة أو معنى حقيقي لهذا المبدع، فالسيناريوات السينمائية تولد عنده في ليلة أو ليلتين، وأجمل أفلامه تلك التي صورها في ستة أيام فق، الجوائز التقديرية المحلية والعالمية التي انهالت عليه جعلته رمزاً للشباب الألماني خلال عقد السبعينات من القرن الفائت، فمن كان يراقب طريقة انجازه لأفلامه كان يتكون لديه الانطباع الحاسم بأن مجنوناً يعمل على ثلاثية ستقطع معها بكرة حياته منذ الجزء الثاني، ويقع ميتاً "كان هذا الشعور يساورني منذ البداية حتى إنني اختلقت مرض القلب اختلاقاً، لكنني اعتدت أن أصور الناس بسرعة، لأن الأشياء كانت تنتهي بسرعة".
فيلم (سر فيرونيكا فوس) حصل على جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين عام 1982، ومهد الطريق لأفلام لم تر النور أبداً، (أنا السعادة على هذه الأرض) و(كوكايين) مع رومي شنايدر و(حياة روزا لوكسمبورغ) مع جين فوندا.
سماه الألمان (ضمير الأمة)، واحتقروه في نفس الوقت، فقد كان (متمرداً من دون رصيد) يستفز المؤسسات القائمة ويؤمن بأن (الإنسان يمكن له أن يدمر دون أن يرمي حجارة، فهو يمكنه أن يدمر المسلمات والعادات والكليشيات السينمائية).
كان راينر فيرنر فاسبيندر مفاجأة تقبع خلف المفاجآت، فكم فيلم هو إعادة اكتشاف له، ولهؤلاء الذين تتبعوا حياته الإبداعية القلقة مقارنة بطريق هيرتزوغ وشلوندرف وفندرز، فقد أعاد المجد العالمي للسينما الألمانية التي لم تتذكر شيئاً من هذا القبيل منذ مرحلة السينما الانطباعية (سينما فايني وشتيرنبرغ) في العقد الثالث من عشرينات القرن الفائت.
كتبت الناقدة السينمائية الفرنسية كوليت غودار بمناسبة موته المبكر: (راينر فاسبيندر هو غضب الفيلم الألماني الصارخ، غضب الشبان خلال الستينات بعد أن فهموا ما الذي تركه له الكهول من ألمانية محطمة، خربة، وتهجع إلى نازية قاسية).
لقد فهم لوحده أن هذا المحتوى الإبداعي الكبير لا يمكن له أن يتوارن، لكن كل أفلامه كانت بمثابة خطوات متتابعة لتطور دائم بخلفيات وضاءة. احتمالات قيمة روحية. عزلة إنسانية في مجتمع يفتقد للتوازن الروحي. وكل فيلم على حدة كان ترجيعاً نحو ثباته المفضل الذي عمل عليه في حياته القصيرة: (الحب مستحيل بين الناس ولذا ينبغي أن نظهره في أفلامنا يوتوبياً.... لأنه يموت بسرعة عندما يصطدم بوقائع الحياة اليومية. هذا من جهة، ومن أخرى، فإننا نحصل على بشر صغار يمتلكون مشاعر واحاسيس كبيرة بإظهارنا له هكذا).
أسلوب فاسبيندر في الدلالة اللغوية السينمائية شخصي متعامق وغير مسبوق من قبل، تكوينات قوية، غريزة لونية، وضوء محيطي بارع هو عبارة عن حوار مبسط مع الأشكال التعبيرية للوصول نحو تعقيدات كلاسيكية، كما في أفلامه (تاجر الأزمنة الأربعة – 1971) و (زواج ماريا براون – 1978) و (بورتريهات لا تعرف الرحمة – 1979) وهي أفلام ألمانيا بعد الحرب، وقد وضعها النقاد في مصاف روايات هاينريخ بيول وغونتر غراس. وربما غبثياً، ودون معنى أن يبحث المرء في أسباب موته المبكر، ففي فيلمه (احترس من العاهرة القديسة – 1970) يقول واحد من أبطاله (فاسبيندر نفسه لعب الدور): أتعلم؟ الشيء الوحيد الذي أفهمه هو التشاؤم... ربما يكون هذا هو مفتاح اللغز؟".
هذه الانعكاسات خلقت نمطية في الأذواق والتقبل لدى المشاهدين ومن بينهم بعض مؤلفي السينما، وبات واضحاً أن أي فيلم ألماني لن يكتسح شباك التذاكر إلا أذا حصل على جائزة كبرى من مهرجان دولي، أو أن يوزع عبر شركات سينمائية أمريكية بغض النظر عن مستواه الفني....!!
التلفزيون كان يقدم إمكانات معقولة لمخرجي الموجة الجديدة، فاستخدمها فاسيندر كما لم يستخدمها مخرج سينمائي من قبل دون أن يلتفت إلى "تنظيرات سطحية" بخصوص علاقة السينما بالتلفزيون. كان يهمه أن يعمل فقط من داخل المنظومة التلفزيونية ومن خارجها من دون أن يدقق بطريقة تحقيق أفلامه، وبعد ثلاث سنوات فقط من علمه تمكن من خلق (أسلوبية فاسبيندر). هذه الأسلوبية حددت ملامح إبداعاته لاحقاً كمخرج وسيناريست ومنتج أحياناً، وأحياناً كمصور وممثل ومونتيير.
لقد خلق هذا المؤلف السينمائي خصوصية في طرائق صناعة أفلامه بغض النظر عن أشكالها أو أجناسها. وبعد إبداعاته من خلال (الكاميرا الثابتة التي تتحرك قسراً في أفلامه التلفزيونية): (كل شيء أراه ثابتاً، حتى هناك حيث تحصل أشياء مريعة، أنا أريد أن أعيد تشكيلها، وهذا مرتبط بتصوري عن الفن) .
لقد أظهر فاسبيندر التلفزيوني ميلاً نحو اللقطة التفصيلية، واللقطة العامة، وهذا لم يسبب له ضيقاً في ميزانيته، ففي العمق يتوصل إلى إثراء غني للتفكير والتكوين مع حفظ الإيحاءات، فعندما لا ينهمك في الطبيعة التي يختارها بأناقة لأفلامه، فإنه يعمل في الأستوديو وسط الأسقف والديكورات والجداران غير المتحركة.
بخصوص (الأسلوبية) يقوم المخرج فاسبيندر إنه قد تأثر بغودار المبكر، لكن هذا لا يعني بطبيعة الحال اقتراباً منه بغض النظر عن اعترافاته، ففي التقانة الفيديوية عمل على تخيل ما أمكن من الإمكانات التلفزيونية في التعبير الفيلمي الحديث المساعد على التصوير الريبورتاجي للمشاهد والتفعيلات البنائية في الكادر الذي يعتبر فكرية تخص البطل.
هذه الأسلبة – إن جاز التعبير- تقوده في اتجاه معاكس بعيداً عن غودار، فهو يؤكد على شخصانية البطل المتفردة بعض النظر عن (الإدارة العامة للإبداع). ومن المثير أن نلاحظ في أفلامه المبكرة تأثراً يجد جذوره في تراث السينما الأمريكية (هذا التأثر نجده في "الجندي الأميركي – 1970) كلاوس أيدير، ناقد ألماني، يلاحظ في مجلة سينما وتلفزيون – 1971: " هذا الذي يربط المشاهد يكمن في الواقع في المعنى المأخوذ من أفلام أخرى، من هذه مثلاً التي تخص فاسبيندر نفسه وأفلام الغانغستر الأمريكية، الشخوص تتحرك كما لو أنها تعبيرات سينمائية مرتبطة بتاريخ السينما وفتوحاتها الاستثنائية". في أفلامه الأولى سوف نجد احتياجاته من المسرحيات التلفزيونية تطغى على أعماله: (المقهى – 1970) لغولودوني، و(نورا هيلمر – 1973) لإبسن، والمسلسل الطويل المستوحى من القصص السوداء كما في (حرية بريمير)، وهو يحكي عن امرأة تجد في الانتحار الطريقة الوحيدة لتتحرر من سطلة مجتمع ذكوري بعد أن شهدت أيضاً موت أقاربها وأطفالها وزوجها.
هذا الاتجاه التلفزيوني عمل عليه في السينما أيضاً. في (سر فيرونيكا فوس) 1982، التفت فاسبيندر نحو الميثولوجيا الإنسانية، فأسلوبه تحليل سينمائي بمبدأ تلفزيوني يعمل عليه، وهو يستمد صفاته من الخمسينات أي (من أوروبا قبل مرحلة التلفزيون)، فاستحضار الشخوص الصحفية في البناء الدرامي، هو بمثابة عنصر يبرئ الريبورتاج في الفيلم، وفي الوقت نفسه، كل مشهد، كل كارد، كل لقطة مشغولة بأناقة سمعية وبصرية، والأسلوبية هنا مخطوطة حية حتى أخر نفس.
الفهرس
مقدمة المترجم......
عندئذ تعلمت الإخراج السينمائي.....
الغضب الذي يصدر عني أنا.....
عندما تعمل للجمهور يجب أن تغير ليس في الشكل فقط...
لتتوقف الأفلام عن أن تكون أفلاماً فقط....
الشخصيات التي يمكن للشاهد أن يصنعها في مخيلته....
أن تكون زبالاً في شوارع مكسيكو....
خير لك من أن تكون مخرجاً في ألمانيا......
جنون وإرهاب.....
وأنا أيضاً أتغير مع أبطال أفلامي....
أن تلتفت نحو الشيء الذي تعايشه....
مايكل كورتيس: فوضوي في هووليود؟.....
أصور أفلاماً بسبب الالتزام الشخصي... وليس لسبب آخر....
مهما فعلت سيقف الناس ضدي....
أنا فوضوي رومانسي....
حوار مقتضبز....
ألمانيا في الخريف..