السينما التاريخ والعالم قراءة في العلاقة بين الفن السابع والواقع السياسي والاجتماعي


السينما التاريخ والعالم قراءة في العلاقة بين الفن السابع والواقع السياسي والاجتماعي

ابراهيم العريس
منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما /143/

من بين مواضيعها المفضلة، وهي عادة كثيرة وتشمل تقريباً كل شيء من حكايات الحب إلى الحضارات إلى المواضيع البوليسية إلى الخيال العلمي والميلودراما وصولاً إلى السياسة وغيرها، يحلو للسينما أن تعود بين الحين والآخر إلى نوع سينمائي يعرف في أغلب الأحيان، كيف يستقطب جمهوراً واسعاً، خاصة وأن استعراضية الشاشة السينمائية والضخامة المطلوبة لمثل هذا النوع، تجعلان السينما من دون منافس تقريباً، حتى وإن زعمت الشاشة الصغيرة (التلفزة) القدرة على خوض النوع نفسه: وهذا النوع الذي نعنيه هو السينما التاريخية، وبالمعنى الحرفي للكلمة، طالما أن في إمكان كل فيلم أن يزعم لنفسه أنه يمكن أن يكون تاريخياً بمعنى أنه يعيد تركيب أحداث حصلت بالفعل أو يمكن أن تكون حصلت، أو يتوقع حصولها في المستقبل.
ما نعنيه هنا بالسينما التاريخية هو، بالتحديد، مجموع الشرائط التي تعيد إلى الشاشة الكبيرة أحداثاً وقعت في الماضي، القريب أو البعيد، سواء استخدمت في ذلك مجموعات من الشرائط الوثائقية التي سجلت الحدث بالفعل – في القرن العشرين وجده طالما أن السينما لم تكن اخترعت قبل ذلك- . أو بنت ديكورات وأتت بممثلين أوقفتهم أمام الكاميرا ليلعبوا أدوار شخصيات تاريخية. وهذه السينما التاريخية، على تفاوت جودة أفلامها، كان لها دائماً جمهور عريض ما جعل هذا النوع يعيش أكثر من غيره وجعل أفلامه موجودة ويعاد عرضها على الدوام. كما جعل المنتجين والمخرجين يضيفون دائماً شرائط جديدة عن أحداث كان سبق لها أن قدمت على الشاشات مراراً.
وعن شخصيات اهتمت بها السينما منذ بداياتها، وحسبنا أن نذكر مثلاً أن العام 2005 وحده، بدءاً من مهرجان "كان" في الجنوب الفرنسي، شهد عرض شرائط عديدة تتصدى للتاريخ: من تاريخ "طروادة" إلى سيرة "الاسكندر" إلى حكاية "الملك آرثر" إلى الحروب الصليبية (في فيلم "مملكة السماء" لردلي سكوت)، حتى ندرك كم أن هذا النوع يلقى القبول... فهل علينا أن نضيف هنا متسائلين عما إذا لم يكن اهتمام كبير بتاريخ الدين وعذابات السيد المسيح، هو ما وقف وراء النجاح الأسطوري الذي حققه فيلم "آلام المسيح" لميل غيبسون، وهل ننطلق من هذا لنتساءل عما يجعل الجمهور العريض مهتماً كل هذا الاهتمام بمعرفة "ما حدث في التاريخ" عن طريق السينما؟
الحقيقة أن بحوث علم اجتماع السينما، تصدت كثيراً وفي كتب عديدة لدراسة كل دافع من هذه الدوافع، من دون أن يغرب عن بالها في الوقت نفسه، واقع جمالي بحث، طالما أن الفيلم التاريخي، ومهما كان شأنه وموضوعه، يكون عادة استعراضياً، حافلاً بالألوان والأحداث والشخصيات، عابقاً بالأزياء والإكسسوارات، بحث يمكن لكل مشهد أن يساوي ألف لوحة تشكيلية.
وهذا البعد الجمالي، أدركته السينما منذ بداياتها.... بل قبل أعوام من بدايتها، أذ يذكر لنا تاريخ السينما أن توماس أديسون، المخترع الأمريكي، قام العام 1894، أي قبل عامين من الولادة الرسمية لفن السينما على يد الأخوين الفرنسيين لوميير، بتحقيق فيلم رسوم متحركة حول إعدام "ماري ستيوارث، ملكة اسكوتلندا" وعرضه في آلة سحرية كان اخترعها قبل ذلك، وللإنصاف التاريخي لابد من القول أن شريط أديسون هذا هو الرحم الشرعي الذي منه ولدت السينما التاريخية ككل.
ومنذ ذلك الحين، بدءاً من الأخوين لوميير ومواطنهما جورج ميلياس وصولاً إلى مخرجنا العربي يوسف شاهين وتلميذه يسري نصر الله – الذي عرض في "كان" ذات عام، فيلماً طويلاً عن تاريخ المأساة الفلسطينية عنوانه "باب الشمس"– لم يتوقف فن السينما عن سبر أغوار التاريخ، سواء أكان تاريخ الأمم والأحداث الكبرى أم تاريخ الأفراد الكبار أو العاديين.... وصولاً إلى تاريخ الذات عبر أفلام تحمل من السيرة الذاتية لأصحابها ما تحمل. وكل هذا يفتح الباب مشروعاً على سؤال إضافي لابد من طرحه دائماً: هل يمكن اعتماد كل هذه الشرائط كوثائق يكتب تاريخ ما على أساسها؟.
كما يمكننا أن نتوقع، يفتح هذا السؤال سجالاً طويلاً لم يتوقف الباحثون عن خوضه... ولكن ثمة ما يشبه الإجماع على استحالة أن نقدم هذه الأفلام – في معظمها على الأقل – إمكانية للاعتماد عليها – أكانت تسجيلية وقعت حقاً، أم أحداثاً ممثلة – لا يمكنها أن تكون محايدة. بل حتة حين يصور مشهد ما كما كان التاريخ قد وثقه كتابة، فإن السينما – كما سائر الفنون- يمكنها أن تمارس في لحظة ما، تدخلاً من المستحيل عليه أن يكون بريئاً. وهنا الدلالة على هذا لنتأمل المشهد التالي:
في فيلم " وداعاً بونابرت" الذي حققه يوسف شاهين في العام 1994، ثمة مشهد كبير مستقى في جوهره من التاريخ الموثق، وهو مشهد بونابرت يخطب في قواته أمام الأهرامات قائلاً لها: "إن أربعين قرناً من التاريخ تتأملنا من أعلى هذه الأهرامات".... حتى هنا، تبدو اللقطة محايدة وأمنية للواقع التاريخي، لكن الذي يحدث في الفيلم بعد ذلك، هو أن الصورة تنتقل إلى العالم الفرنسي كافاريللي، المتنور الذي يرافق بونابرت في حملته، وسنجده طوال الفيلم ذا نزعة علمية يعارض نزعة قائده العسكرية الاحتلالية، وكافاريللي إذ يسمع عبارة بونابرت، يدمدم أمام الكاميرا، أي أمامنا نحن الجمهور قائلاً: "ها هو الأحمق يقع في الفخ". ليس ثمة في الحقيقة توثيق تاريخي يؤكد لنا أن كافاريللي قال هذه العبارة، لكن شاهين يموضعها هنا، ما يجعل فيلمه ينتقل من حيز التاريخ إلى حيز الإيديولوجيا أو في عبارة أكثر بساطة حيز التاريخ النقدي.
والحقيقة أن مؤرخي السينما، وغيرهم من المؤرخين الأكاديميين الذين اهتموا دائماً بالكيفية التي بها قدمت السينما التاريخ، قسموا  تعامل الفن السابع مع التاريخ إلى ثلاثة أقسام:
التاريخ الجمالي
التاريخ البراغماتي
والتاريخ النقدي.
وطبعاً ليس هنا مجال التشعب الأكاديمي في بحث مثل هذه التقسيمات، ولكن يمكن أن نقول باختصار، إن ألوف الأفلام التي حققتها كل سينمات العالم، أميركية كانت أو أوربية أو عربية أو غيرها، لتتناول فيها كل أحداث التاريخ وشخصياته، حملت دائماً واحداً من هذه الأبعاد الثلاثة، إن لم تحملها معاً، في أفلام كبيرة، صارت بدورها جزءاً من التاريخ، تماماً كما هي جزء من تاريخ السينما.
لقد أشرنا إلى هذا أعلاه: إن الإنتاج السينمائي في العالم أجمع لم يتوقف عن تقديم التاريخ من خلال السينما منذ أول أيامه. غير أن التاريخ النقدي (أو الإيديولوجي) لم يظهر إلا في وقت متأخر نسبياً، وبالتحديد مع ولادة فن التوليف الفكري الحقيقي مع المخرج الروسي سرغايأيزنشتاين.
إذ قبل تلك الولادة كل من المتعارف عليه أن الصورة يمكن أن تكون أقرب إلى الحياد، طالما أنها في حد ذاتها، ومهما كانت وجهة النظر، تظل صماء حتى تعطى دلالة ما.... ولقد كان إعطاء هذه الدلالة المهمة الرئيسية مرتبطاً بفن التوليف، أي فن ربط صورتين أو أكثر وراء بعضها البعض، ولسوف يكون فيلم "المدرعة بوتمكين" (1925) لايزنشتاين واحداً من أول وأعظم الأفلام التي أعطت الصورة معناها هذا، غير أن الأميركي د.و. غريفيث كان قد سبقه إلى التاريخ... ولكن في بعده البراغماتي حين حقق "مولد أمة" ومن قبله فيلم "التعصب" أواسط العقد الثاني من القرن العشرين، متبعاً في هذا خطى الإيطالي باستروني الذي حقق منذ العام 1914 واحداً من أول الأفلام الضخمة في تاريخ السينما "كابيريا"... والواقع أن هذا الفيلم الأخير، وفيلمي غريفيت ثم "المدرعة بوتمكين" تحمل معاً مجتمعة أو متفرقة، كل الأبعاد الجمالية والبراغماتية والنقدية التي أشرنا إليها، فـ "كابيريا" اعتمد ضخامة الاستعراض والأساليب الجمالية الجاذبة للمتفرجين، أما غريفيث، فإنه تبدى براغماتيا، أي مقدماً للتاريخ كما تتصوره العقلية الأميركية المبكرة: تاريخاً وصفياً ظواهرياً يحمل دلالته قبلياً، عبر التوافق المسبق على رؤية التاريخ بين المخرج ومتفرجيه، أما آيزينشتاين فإنه حول التاريخ إلى درس سياسي يخدم أفكاره الاشتراكية الثورية في ذلك الحين.
أفلم يقل دائماً إن التاريخ يكتبه المنتصرون، أو أصحاب المصلحة في كتابته، كما يلائم مصلحتهم؟ حسناً.... إن آلاف الأفلام السينمائية التاريخية التي حققت منذ العام 1894 وحتى العام 2007، لا تقول أبداً أي شيء أخر.
أنها تقول تاريخها الخاص، تاريخ صانعيها، ويقيناً أن يوسف شاهين حين يجعل العالم كافاريللي يعلق على ذلك النحو على عبارة نابليون "الخالدة" إنما يعبر عن نفسه، عن يوسف شاهين نفسه، وعن رأيه في نابليون وفي حملة نابليون على مصر، وفي هذا كله "غش" لذيذ ما بعده من غش: إن المسكين بونابرت، حين قال عبارته، كان واثقاً من أنه يقول كلمة الفصل، الحقيقة والغاية، دون أن يعرف ما يخبئه له التاريخ المقبل، أما شاهين فإنه حين علق ساخراً، على لسان أناه – الآخر في الفيلم كافاريللي، كان يعرف ما الذي سيحدث خلال الزمن اللاحق، وكان يعرف أن الجمهور سوف يضحك معه على بونابرت إذ وقع في الفخ!.

فهرس

على سبيل التقديم: معركة غير متكافئة بين الحاضر والماضي...
السينما بين الحرب والإرهاب....
-    من كينغ كونغ إلى نيويورك...
-    سينما الحرب من كابيريا إلى رايان....
-    من نكبة فلسطين إلى حروب الخليج....
ظاهرة مايكل مور...
-    من سينما الواقع إلى الظاهرة...
-    مور في تجربته الروائية الوحيدة...
-    سيكو بين النقاد وغضب اليسار...
-    هكذا تكلم مايكل...
-    السينمائي والظاهرة...
أوليفر ستون والنظام الأميركي...
-    غلاوبر روشا سينما تعبر عن روح الشعب...
-    إنغماربرغمان أسئلة ابن القسيس على شاشة حديثة قلقة...
-    جون كاسافتس أفلام بسيطة تنطلق من يومية الإنسان...
-    يلمازغوناي أفلام للنضال وأساطير تفوق طاقة فنان...
-    ساتياجيت راي لا مكان في بوليوود السعيدة لفنان حقيقي....
-    بارادجانوف توليف متواصل تعبيراً عن روح الشعب...
-    عشرة أفلام هزت سينما العالم....
-    "التعصب" لغريفيث الفشل مصير الفيلم الأضخم...
-    "المدرعة بوتمكين" عبقرية الفنان والدعاية الحزبية...
-    "ذهب مع الريح... ماذا لو كان غير الفيلم الذي تعتقدون؟.....
-    "المواطن كين" سيرة الذات ورغباتها في كلمات متقاطعة...
-    "الختم السابع" لبيرغمان: في قلب العصور الوسطى...
-    "لورانس العرب" الأسطورة تلتهب وسط رمال الأردن...
-    "الساموراي السبعة" أسئلة الإنسان من أعماق التاريخ...
-    "العراب" شرائط للعنف والجريمة والعائلة ولتاريخ أميركا...
-    "تيتانيك" التاريخ في لقطة قريبة من العواطف...
تجارب تلفزيونية لسينمائيين كبار...
-    حرب الشاشتين لن تقع...
-    تجارب روسيلليني...
-    تجارب غودار...
-    تجارب فاسبندر...
-    تجارب سبيلبرغ...
-    مملكة لارس فون تراير....
هوليوود ضد بوش...
-    في وادي إيلاه...
-    حرب تشارلز ويلسون...
-    رجل العصابات الأميركي...
تيارات سينمائية...
-    الواقعية الجديدة الإيطالية...
-    الموجة الجديدة الفرنسية....
-    السينما الحرة في بريطانية.....
-    سينما نوفو في البرازيل...
هامشيون غيروا مفاهيم الفن السابع....







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية