السينما الناطقة إحياء لذكرى تشارلز كادن 1928- 1996


السينما الناطقة إحياء لذكرى تشارلز كادن 1928- 1996

تأليف: كيفن جاكسون

ترجمة: علام خضر
منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما /141/
في ليلة التاسع من كانون الأول 1824، وقف (بيتر مارك روجيه إم. دي) المعروف اليوم بين كل من يتحدث الإنكليزي بمعجمه الفريد للمرادفات – ليقرأ على مسامع أعضاء الجمعية الملكية بحثاً حمل عنوان "تفسير الخدعة البصرية في رؤية شعاع العجلة من خلال فتحات عمودية". استلهم هذا الباحث فكرته من صورة مضللة مثيرة للفضول لاحظها خلال مراقبة حركة السير من نافذة المطبخ الذي يقع في قبو منزله. وكان هذا البحث أول وصف علمي لحالة شاذة صادفها الإنسان عندما التقط فنان مغمور من العصر الحجري غصناً يحترق ولوح به في الهواء راسماً بعض الأشكال في ظلام الليل. ولخص (روجيه) بحثه قائلاً: أنه الانطباع الذي تصنعه حزمة من الأشعة على شبكية العين.... وإذا كان ذلك الشعاع قوياً بما فيه الكفاية، فإنه سيبقى لفترة معينة حتى بعد زوال السبب." لقد أعلن هذا الطبيب اللامع عن مبدأ "استمرارية البصر"، وكما كتب أحد المؤرخين السينمائيين عن اكتشاف (روجيه) الذي بدأ للوهلة الأولى وكأنه اكتشاف تافه "تستند ثروة صناعة الأفلام بأكملها اليوم على هذه الخاصية". إنه رابط سعى إلى كل من هو مهتم سواء بالكلمات أو الرسوم المتحركة: فهذا الشخص الذي ننعته بمبتكر و"أبي" معجم المرادفات هو أيضاً "جد" السينما.
لقد حدثت الدراسة التي أعدها الباحث (روجيه) عدداً من العلماء الأوروبيين- (فارادي) في لندن و(بلاتو) في غينت و (ستامبغر) في فيينا – على البدء بالابتكار الألعاب والأجهزة الميكانيكية لاختبار مبدأ (روجيه). وسرعان ما استطاع هؤلاء المخترعون إبهار جماهير المشاهدين بمعداتهم وأجهزتهم الجديدة الرائعة: القرص البصري السحري وجهاز العرض البصري المعروف أيضا ًبـ (عجلة الحياة) حيث استطاعت جميع تلك الأجهزة أن تقدم مشهداً لم يسبق له مثيل للصور التي تستطيع أن تتحرك وكأنها أشياء حية،  ويمكن القول بأن مرحلة ما قبل تاريخ السينما قد بدأت انطلاقاً من أجهزة هؤلاء المخترعين وليس عن طرق النموذج الأولي من الكاميرا الفوتوغرافية التي استعملها الفنانون في عصر النهضة, التي تتسب إلى (ألبيرتي) أو المصباح السحري الذي وصفه (اثاناسيوسكيرشر). وقبل عامين تقريباً من البحث الذي أعده (روجيه) استطاع رجل فرنسي يدعى (جوزيف نيسيفور نيبس)- الذي حجب اسمه الصعب باسم شريكه اللاحق (أويس داغور) نظراً لأنه اسم حسن الوقع على الأذن – أن يبتكر صورة فوتوغرافية أولية ولكن دائمة في الوقت نفسه. وقد استغرقت ثمرة عمل كل من الدكتور (روجيه) و (إم. نيبس) زهاء سبعة عقود من الزمن كي تلتقيا سوية في تطابق متناغم (مايزال المؤرخون وأصحاب الفكر القومي حتى الآن في جدل فيما أذا حدث ذلك في فرنسا أو في إنكلترا أو الولايات المتحدة). ولكن عندما تطابق عمل هذين الباحثين عام 1895 تقريباً، لاح شيء جديد في الأفق في أخر المطاف.
لم يعترف الكثيرون بإن هذا الاكتشاف هو شكل فني جديد علماً بأن بعض الناس حتى الآن لا يعتبرون السينما منتمية إلى الفنون الراقية، كما أن عدداً كبيراً منهم أيضاً لا يعترفون بأن السينما صناعة جديدة – فالأشقاء (لوميير) أنفسهم أعلنوا بأن ابتكارهم لجهاز (السينماتوغراف) لم يكن سوى آلة لا طائل منها كمشروع تجاري رابح. ولكن بدأت بعض الأفكار تراود ذهن المراقبين بأن السينما يمكن النظر إليها كشكل جديد من أشكال اللغة أو لعلها حلم قديم يتحقق قد وصفه (روجيه) ذات مرة بـ "الهدف العظيم الذي يرمي إليه فاعلو الخير نحو تأسيس لغة عالمية. وببساطة فإن السينما (الصامتة) كان لديها  إمكانية التواصل عبر الحدود اللغوية بين الشعوب وبين الأقلية المثقفة وأغلبية الناس. كما اعتقد المفكرون بوجود صلة محتملة بين صور الأفلام واللغة الهيروغليفية المصرية أو الرموز اللغوية الصينية. وفي الوقت الذي بدأت فيه بعض المؤسسات التعليمية، كمعهد (برايتون) في إنكلترا ومعهد (إديسون) بأمريكا بابتكار ونشر مصطلحات روائية جديدة مثل "اللقطة المقربة" و "المونتاج الموازي" وغيرها من المصطلحات، اتضح أيضاً أن هذا الوسيط الجديد لابد من احتوائه على بناء الجملة كالأسماء العادية (الناس... والأشياء...)  والأفعال التي شكلت وحدات ذات معنى بالنسبة لذلك الوسيط. ومن هنا ظهرت بعض المقررات الدراسية الكلاسيكية حول صناعة السينما بشكل عام والمونتاج بشكل خاص، ككتاب "القواعد والنحو السينمائي" بقلم (ريموسبوتيسوود) 1935.
ولكن في الوقت ذاته كان الشعراء والفلاسفة يهللون ترحيباً بظهور لغة يفهمها كل إنسان بواسطة العين وسارع أصحاب حرفة السينما من كاليفورينا إلى برايتون بارتجال لغة مختلفة كلياً لا يفهمها سوى أبناء المهنة السينمائية أنفسهم – وهي لغة مقتصرة على صناعة السنيما واحتوت على مصطلحات ومفردات خاصة بها فقط، مثل "لقطة" و "قطع" و"تدوير الكاميرا دورة بانورامية" و "لقطة متحركة مأخوذة بواسطة منصة كاميرا متنقلة مثبتة على عجلات يقوم أحد عمال الطاقم بتحريكها" و"تلاشي الصورة بالتدريج" و"إغلاق الحجاب القزحي كي يغطي السواد الصورة في كافة جوانبها بالتدريج مما ينتج عنه صورة دائرية يتوالى تقلص حجمها إلى أن تختفي نهائياً عن المنظر" و"لقطة المتابعة" وغيرها من المفردات المشابهة لتصبح لغة خاصة بأبناء تلك المهنة كغيرها من اللغات الخاصة  بأبناء المهن الأخرى وهذا ما سهل لهم تنفيذ عملهم بسرعة وفاعلية أكبر. (كان صانعو السينما في بلدان أخرى منهمكون أيضاً بتطوير مفردات ومصطلحات موازية، مع أن بعض الشعوب كانت تسرق المفردات من بعضها البعض أو تلجأ إلى اقتباس تلك المصطلحات. فعلى سبيل المثال، تداولت البلدان الناطقة بالإنكليزية بعض المصطلحات مثل" مونتاج" و "سينمائي أو عاشق السينما و "الفيلم الأسود أو السوداوي". وفي الحقيقة تشكل تلك اللغة صلب وجوهر موضوعنا الموجود بين أيديكم.
كانت هوليوود في بداياتها ترحب بحرارة بالقادمين الجدد من مختلف الأمم شريطة أن يتمتعوا إما بجمال فائق أو أن يكونوا قادرين على تحقيق الأرباح، وكذلك الأمر بالنسبة للغة السينما ومصطلحاتها الفنية فهي تبدو أيضاً كمخلوق هجين نتج عن تلاقح كلمات دور تمييز الأصل بدءاً من المسرح ومختبرات التصوير ومشاغل الرسامين وصولاً إلى المستويات الثقافية العالية أو العامية على حد سواء. فقد استعمل الفنيون المهتمون بالصور المتحركة بتصرف تلك المفردات الخاصة بالتصوير الضوئي الثابت مثل "تركيز العدسة البؤري وتحديد وجهتها) (النسخة المطبوعة من فيلم التصوير) (نيجاتيف الفيلم) ،(النسخة الموجبة أو النسخة المظهرة من الفيلم) (عدسات) (كاميرات)، وحتى كلمة (التصوير الضوئي) بحد ذاتها، بالإضافة إلى علم البصريات أيضاً، أما الذين أظهروا اهتماماً أكبر بقصص الأفلام، فعملوا على استعارة بعض المفردات الخاصة بالمسرح، مثل (ممثل- ممثلة- نجم- ديكور- (السيكلوراما)، بالإضافة إلى اقتباسهم بعض المفردات من فن الرواية أيضاً: بالنسبة للمواضيع والحالات التي لم يتسن فيها لصانعي الأفلام استعارة المصطلحات الواضحة، فقد لجؤوا إلى استعمال كلمات عادية جداً تفي بأغراضهم.
ولكن بعد سنوات قليلة فقط أصبحت اللغة الاختصاصية لصناعة الأفلام مختلفة عن سواها من اللغات المقتصرة على فئات قليلة أو غيرها من الحرف والمهن، فالسنيما منذ أيامها الأولى جذبت إليها ملايين الناس ممن لا ينتمون إليها بالأصل باستثناء المعجبيبن بالسينما بالإضافة إلى أولئك الناشئين الشباب الذي اقتحموا لاحقاً مجال التلفزيون – الذي يعد وسيطاً غنياً بمفرداته الخاصة به حيث أضاف عليه هؤلاء الناشئون مفردات ومصطلحات كثيرة باستثناء ما تشابه منها من تلك المصطلحات السينمائية – الذي مازال الإعلام يبهر العديد من المشاهدين ولصناعة الأفلام بشكل عام، نجد الكثيرين يتحدثون عن السينما بمنتهى السهولة والبساطة أو التحليل العميق. وبينما نجد بأن باقي المعاجم والقواميس (لاسيما القانونية منها) تبدو وكأنها حاجز لغوي يبعد قسماً كبيراً جداً من الجاهلين بالأمور القانونية ويسمح فقط لطبقة مميزة ومعينة بالولوج إليها، فإن اللغة الخاصة بالسينما أثبتت بأنها ديموقراطية ومنفتحة نحو الجميع.
إن هذا الوعي والإدراك الواسع وغير الغادي للغة السينما وقد ولد ضغوطاً معقدة وبارزة على أساليب وطرق استخدام اللغة الإنكليزية. ففي أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين لاحظ (سيربل كونولي) بأن السنوات القليلة الأولى من الأفلام الناطقة قد نكهت الأدب المعاصر فن الخطابة كما أنها ساعدت على ترويج المفردات التي كتبها (همنغواي) ومكنته من استعمال الكلمات العامية لتصبح مع مرور الأيام مفهومة بشكل أكبر بالنسبة لمعظم الناس، كما لوحظ بأن هوليوود قد علمت أجيالاً من الشبان والشابات في بريطانية أموراً استهجنها الكبار كالتقبيل والتدخين واللباس الحديث وطريقة التحدث بأسلوب قريب من اللهجة الأمريكية، علاوة على اكتساب عادات أخرى اندرجت ضمن العيوب لدى الجيل السابق.
لقد ساهمت الأفلام بقولبة العالم إما بطرق عظيمة أو تافهة، وكذلك فإن تاريخ السينما يجب أن يكون على مستوى معين تاريخاً غير مباشر للقرن العشرين بكل ما فيه من أحداث جديدة مرعبة أو مبهجة. إن أية  مجموعة من المفردات السينمائية– بغض النظر عن بساطتها – يتخللها التاريخ نفسه (راجع مداخل المصطلحات التالية : (الواقعية الاشتراكية) (الأفلام السوداء أو السوداوية) واتمنى أن تحظى هذه الناحية باهتمام الجميع حتى أولئك الذين لا يستهويهم ارتياد دور السينما بشكل عام. وللأسف فإن مؤلف المعاجم الدكتور (روجيه) قد ينضم إلى الفئة الأخيرة التي لا تهوى الأفلام السينمائية لأنه كان رجلاً مستقيماً متديناً ولأن الابتذال والمبالغات في هذا الوسيط السينمائي الذي ابتكره دون تصميم أو حسبان لابد أنه كان سيثير اشمئزازه ونفوره وامتعاضه واستياءه... فلو كان (روجيه) سيعلم أم يتنبأ بنتائج حديثه أمام "الجمعية الملكية" فلعله كان سيكف عن الكلام ويلتزم الصمت، ولكن ينبغي على الملايين من البشر أن يكونوا سعداء لأنه لم يلتزم الصمت....







مواقع صديقة

 

آفاق سينمائية

مجلة إلكترونية أسبوعية