فؤاد مسعد
تاريخ كبير من العطاء الذي عجز الموت عن إيقاف تدفقه ، فما خلفّه لايزال ماثلاً في الذاكرة ، يشكل منارة للأجيال ومدرسة من الصعب تقليدها وإنما التمثّل بها لما تزخر به من رؤى وأفكار وتوقد إبداعي .. هي مدرسة الفنان والكاتب والمخرج المبدع الراحل نهاد قلعي الذي أعطى من قلبه الكثير ، لم يبخل بما قدم وإنما فعل ذلك بحب متناهٍ ، كان فيما يُنجز من أعمال قريباً من وجدان الناس وأوجاعهم وآلامهم ، يلامس بفطرته قضاياهم بإطار شعبي مُحبب ، نبيل وراقٍ .
ـ النشأة والبداية :
هو نهاد قلعي الخربوطلي مواليد دمشق (1928) ابن حي سوق ساروجا الدمشقي ، نشأ ضمن أسرة دمشقية مُفعمة بروح الأصالة والإبداع والأدب ، إذ تربطه أواصل قربة مع الإعلامي والأديب عبد الغني العطري ، أما عمه فهو الأديب بديع حقي ، وخاله الفنان توفيق العطري أحد مؤسسي المسرح السوري وواضع حجر الأساس فيه .
درس نهاد قلعي المرحلة الابتدائية في مدرسة البخاري ، أحب التمثيل منذ صغره حيث بدأت موهبته بالظهور ، وفي المرحلة الثانوية تتلمذ على يد عبد الوهاب أبو السعود الذي يعتبر مؤسس المسرح المدرسي فبرز نهاد فيما قدم خلال هذه الفترة . ثم قدّم له الفنان وصفي المالح فرصة أداء دور صغير في مسرحية (مجنون ليلى) ، وبعد إحالة والده على التقاعد كان سعيه الاتجاه نحو دراسة التمثيل بتشجيع من خاله الفنان توفيق العطري مُكتشف موهبته ، فانطلق لتحقيق حلمه وساعدته في ذلك والدته التي قامت ببيع ما تملك ليستطيع ابنها السفر إلى القاهرة ودراسة التمثيل في معهد التمثيل فيها ، ولكن حدث ما لم يكن بالحسبان إذ وقفت الأقدار له في المرصاد ، فما جمعه من مال ليسافر به تمت سرقته قبل أيام من رحلته مما أضطره لأن ينحي فكرة السفر جانباً ويبقى في دمشق حيث عمل في عدة مجالات وأول عمل قام به هو مراقب عمل في معمل للمعكرونة ثم ضارباً على الآلة الكاتبة في الجامعة لمدة ست سنوات وبعدها نقل إلى وزارة الدفاع ، وبعد استقالته عمل مساعداً لمُخلّص جمركي لمدة خمس سنوات ومن ثم عمل مخلصاً جمركياً .
ـ الأعمال الأولى :
بدأ مشواره الفني الحقيقي عام 1946 حيث انتسب إلى نادي البرق وأول مسرحياته كانت (جيشنا السوري) لكن ليلة العرض اعتقلت السلطات الفرنسية بطل المسرحية حسن ستي فلعب نهاد دوره إضافة إلى الشخصية الأساسية التي كان يؤديها . وفي عام 1954 أسس نهاد مع خلدون المالح وسامي جانو وعادل خياطة وآخرين النادي الشرقي وأول عمل قدموه كان (لولا النساء) ومن ثم (الأستاذ كلينوف) كما قدمت الفرقة عروضاً في مصر أثنى عليها عميد المسرح المصري يوسف وهبي . أما في عام 1959 فعهدت وزارة الثقافة إليه بتأسيس المسرح القومي وإدارته حيث لقي مجموعة من المصاعب سعى لتذليلها مع الرواد ليثبت هذا المسرح مكانته فقدم أعمالاً ناجحة وقدم نهاد أول مسرحياته في المسرح القومي بتاريخ 26/2/1960 وهي مسرحية سياسية (المزيفون) فمسرحية (ثمن الحرية) وقدم عام 1961( البرجوازي النبيل) وفي إحدى عروض هذا العمل كسر إبهام قدمه لكنه تابع متحملاً الألم .
ـ حسني البورظان والشاشة :
أطلق على نفسه اسم (حسني البورظان) عن طريق المصادفة في برنامج (سهرة دمشق) حيث كان اسمه فيها حسني وفي إحدى المرات نسي الحوار فسعى لإطالة المشهد قليلاً كي يعود ويتذكر ما سيقول وإذ به يرى خلف الكواليس عازف يحمل بورظان فقال عن نفسه أنه حسني البورظان وإذ بالجمهور يعجب بهذا اللقب فيلتصق به طيلة حياته .
بدأ مشواره الفني في التلفزيون منذ اليوم الأول لافتتاحه 23/7/1960 عبر برنامج منوعات (الأسرة السعيدة) وبعد عدة حلقات منه حدثت فيه تغيرات وأصبح اسمه (سهرة دمشق) وفيه التقى بالفنان دريد لحام . وفيما بعد قدّم دريد ونهاد بين عامي (1960 ـ 1976 ) مجموعة من الأعمال التلفزيونية والمسرحية الهامة ففي عام 1961 قدما مسرحية (عقد اللولو) تأليف دريد وسيناريو نهاد ثم قدما أول عمل تلفزيوني مشترك بينهما (مقالب غوار) ومن ثم (حمام الهنا) وبعد ذلك قدما العمل الأكثر نضجاً (صح النوم) وكان إعداد هذه الأعمال لنهاد ودريد أما الإخراج فلخلدون المالح وقد عدت تلك الأعمال مدرسة فنية بحد ذاتها حققت الشهرة لكل من شارك فيها . حتى أنها كانت محوراً للأفلام السينمائية التي قدماها معاً ولكن جاءت أقل مستوى من الأعمال التلفزيونية وقد شاركا معاً في واحد وعشرين فيلماً ، أولها كان (عقد اللولو) عام 1964 وشاركهما فيه صباح وفهد بلان إخراج يوسف المعلوف وإنتاج نادر أتاسي الذي أنتج لهما بعد عام فيلمهما الثاني (لقاء في تدمر) مع المخرج نفسه ، وكرت السبحة (فندق الأحلام ، أنا عنتر ، المليونيرة ، غرام في اسطنبول ، الصعاليك ..) .
ـ (غربة) والتحوّل المؤلم :
في مرحلة السبعينيات قدم مع دريد لحام مسرحية (ضيعة تشرين) عام 1974 وبعد عامين قدما مسرحية (غربة) . ولكن وسط كل ذلك النجاح تعرض نهاد لحادث عنيف ورغم تحذير الأطباء ذهب لأداء دوره في مسرحية (غربة) فسقط على خشبة المسرح وأصيب بحالة شلل أقعدته مريضاً في المنزل مما أستدعى إيقاف العرض لعدة أشهر ولكن عندما قرر الأطباء منعه من اتمام عمله قدم شخصية (أبو ريشة) بدلاً عنه الفنان تيسير السعدي ، وتمت معالجة نهاد في دمشق ولندن وتشيكوسلوفاكيا فتحسن لكن لم يقتلع المرض من جذوره . ولدى تصوير المسرحية للتلفزيون كان الإصرار أن يقوم هو بتقديم الشخصية ، وهذا ما حدث . وبعد عشر سنوات أي في عام (1986) كتب نهاد مسلسل (عريس الهنا) وشارك في بطولته ولكن المرض كان ظاهراً عليه إلى درجة كبيرة .
ـ التقاعد والوفاة :
بعد تقاعده أمر الرئيس الخالد حافظ الأسد بإعادته لوظيفته مخرجاً بالمسرح القومي فشعر من جديد أنه يستطيع العطاء فعلاً ، وعندما أقفلت أبواب العمل التلفزيوني والمسرحي في وجهه توجه لتأليف القصص المصورة للأطفال والكتابة في مجلة الأطفال (سامر) وذلك من أواخر السبعينيات وحتى أواخر الثمانينات ، ولكن تدهورت حالته الصحية لدرجة كبيرة حتى وافته المنية إثر جلطة قلبية في شهر تشرين أول من عام 1993 ، وقد شُيِّع جثمانه إلى مثواه الأخير في مقبرة الدحداح، بموكب رسمي وشعبي كبير .
ـ رؤيا ناضجة للواقع :
تعتبر تجربة الفنان نهاد قلعي تجربة تحمل نضجاً وعمقاً إبداعياً وفكرياً على مستوى عالٍ من الوعي والبصيرة ، فهي تجربة غنية نابعة من الواقع وملتصقة به ، تحاكي همومه ومشكلاته وتحاول قراءة المستقبل عبر قالب بسيط وبلبوس كوميدي طريف في مظهره ولكنه عميق أشد العمق في مضمونه عبر ما يحمل من دلالات وإشارات ، وهو الأمر الذي أكد عليه الفنان ياسين بقوش في إحدى لقاءاته المصورة متحدثاً عن بداية عمله مع الثنائي دريد ونهاد ، مشيراً إلى ما قاله له الفنان الراحل نهاد قلعي حول دور (ياسينو) ، قال : (شرح لي قصة المسلسل وقال أنه مثل مسرح الشوك ، فحسني البورظان يمثل الفكر العربي ، وغوار يمثل الفكر المتآمر على الفكر العربي ، وأبو عنتر هو عضلات الفكر المتآمر ، وياسينو يمثل الشعب العربي الطيب الذي يصدق كل شيء ويقتنع بكل شيء حتى ولو كانوا يكذبون عليه ، وفطوم حيص بيص هي الأرض العربية التي سيحدث التزاحم عليها في المستقبل ..) ، وبالتالي حتى أسماء الشخصيات والأماكن لم تسلم من رؤيته التشريحية للواقع ، كما أن الحارة التي تضم النجوم في (صح النوم) كان اسمها (كل مين إيدو ألو) وهو اسم لم يُطلق من الفراغ وإنما يحمل مدلولاته حول الواقع العربي ، واليوم هناك الكثير من المقولات والقراءات التي اطلقها الفنان الراحل ماثلة معنا اليوم ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر (إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا .. يجب أن نعرف ماذا في البرازيل) وبالنتيجة هي جمل تحمل دلالاتها العميقة .
ـ التكريم :
كرّم السيد الرئيس بشار الأسد عام 2008 كل من الفنانين نهاد قلعي ورفيق سبيعي وعبد اللطيف فتحي بمنحهم وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة (وذلك لإنجازاتهم في خدمة الفن) .
ومن جانب آخر فقد أقامت جمعية أصدقاء دمشق بالتعاون مع مكتبة الأسد الوطنية مؤخراً حفلاً تكريمياً للفنان الراحل بمناسبة مرور اثنين وعشرين عاماً على رحيله تقديراً لمسيرته الفنية الغنية ولأعماله التي ساهمت في إرساء دعائم الدراما السورية ، وتم الإعلان في نهاية الاحتفال عن موافقة مجلس محافظة دمشق على تسمية شارع في منطقة المهاجرين مكان إقامة الراحل نهاد قلعي باسمه .